قبل سنوات في الدانوب كنت أحاسب، وأمامي، وأنا ما مدّيت النظر، سيدة تنتظر أحداً ما. في لحظة ما التفتت بوجهها فشعرت بارتباك بالغ وكأنني أحتاج التأكد من شيء.
وجه مستدير، ممتلئ، ويرتدي نظارة. تكاد ملامحه تطابق ملامحي. وكأنني في مسلسل أو فيلم. وارتباكي، لثانية، كان: هل هذه مرايا؟
السيدة/ الفتاة، كانت ترتدي نظارة ذات إطار عريض أسود. وتلم بين يديها شرشف أسود كعباءة. ذلك الذي كانت ترتديه والدتي وعمّتها قبل سنوات طويلة. ومن تحت الشرشف الذي يرتفع حتى ما قبل ركبتيها، تظهر جلابية برسومات بنّية في غاية البشاعة، بل إن الوصف الدقيق لها كان ” رسومات حشراتية” – لو رأيتها بدون سياقها- ولكنها ظهرت في تلك اللحظة كأنسب ما يكون. ومن تحت الجلابية، صندل أسود مما شاع في الثمانينات ربما. بإبزيم عملاق في مقدمته.
أظن، والله أعلم، أن السيدة التي تشبهني وأشبهها، لم تكن تحاول ابتكار مظهر/ لوك معين. لم تكن تستدعي الانتباه. لم تكن مدركة لاستدعائها الانتباه. كانت واقفة ببعض نفاذ صبر أمام واجهة محل تختلط فيه الاكسسوارات مع النظارات مع بعض الحقائب (أحد المحلات الذي كان يحتويها دانوب الصيرفي بجدة)، وحولها بعض الأكياس. تعِبتْ. وأبغى أروّح البيت.
لكنها، يا ربي، كم كانت فاتنة.
فتنتها لم تكن في ملامحها، بل في البعد الذي اختارت أن تسكنه بملابسها. ألا تتخلى عن ترتيبات مألوفة. ألِفتها والدتها، وألِفتها جدتها، وربما والدة جدتها. كبيجامة قديمة عصيّة على الاهتراء. دافئة، ملوّنة، وفيها سمر الليالي وطيبة الصباحات.
وفي تلك اللحظة بالذات، عرفت أني ” عايزة من ده يا حزمبل أنا عايزة من ده“.
أريد أن أتعلّم وأتبنّى القصّة. الجلابية، والصندل العِفش، ولا مانع عندي من أن أضيف تفاصيلاً أخرى أو لا أضيف. بناجر الذهب؟ بعضاً من حناء على أصابعي؟
هذه أمور لم أخضها في حياتي. ولكنها تعرفني وتحبني، وأعرفها، وأحب أن أحبها. ووعدت نفسي، في مستقبلٍ ما، سأتعامل مع الأمر كمشروع. سأشتري جلابياتي بنفسي (من أي المحلات نشتري الجلابيات؟)، وسأتحنّى، وسأصل بطريقة ما إلى اقتناء الصندل إياه (هل لازالت تبيعه المحلات؟).
وظلت الوعود معي. بين شهور وأخرى يطرأ ما يذكرني بها، فأبتسم. وتطير فراشاتي تحمّساً لها. لكني لم أنفّذ المشروع. وفي السنتين الأخيرة ربما لاحظت أنني لست وحدي من يعود إلى هذه التفاصيل، فتيات وسيدات كثيرات قدّمن نسختهن الخاصة للفكرة. بالأمس وبينما كنت أتصفح مفضّلة حسابي على تويتر، وجدت هذا:
ووجدت، بما أن هذه الأيام من حياتي تصلح لأن تُعنّون ب” وقت الأشياء الطيب هو وقتها”، فأحب أن أشرع في تنفيذ الأمر فوراً. وعاجلاً غير آجل.
في صباح اليوم ذهبت لوالدتي الله يخليها. سألتها: أبغى أشتري جلابيات. فين نروح؟ نظرت إلي بعينيها المتفحصتين، كعادتها عندما تريد تقييم طلباتي، وهل تنتمي إلى السياق الطبيعي للطلبات أم أن لدي أجندة خفية تخالف عادية الأشياء. ثم قالت: تشتري قماش الجلابيات، وبعدين نخيّطها. طيب من فين نجيب القماش، تساءلتْ. قالت: عندي منه كثير. ثم بما يشبه السحر الذي لم يعد سحراً إن تعوّدت على عالم والدتي، أرتني مجموعة من أقمشة الجلابيات التي لاتزال بأغلفتها. هذه من صديقتها فلانة. وهاتين وصلتها من الإمارات، وهذه البحرين، وهذه من خالة رضية رحمها الله.
يا للسعادة. أظهرت فرحي الذي استقبلته والدتي بتأنٍ مبتسم ومستغرب. ثم اخترت اثنين. واحدة مليئة بالرسوم المدوّرة مثلي، وفيها كثير من الألوان المبهجة، بنفسجي بدرجاته الموڤيّة، وبعض الأصفر الشمسي الغامق. والثانية بيضاء تميل بأناقتها إلى الانتقاء المغربي. بتطريز خفيف على ياقتها يجمع بين اللونين النحاسي والسمائي.
بعدها بدقائق أتتني بجلابية- قفطان بأكمام قصيرة أكثر من كونه جلابية- وقالت لي أنها هدية من عمّتها- كنت سميّتها- التي توفّت منذ أربع سنوات. وأنها لم ترتديها لأنها طويلة ولا يناسبها التقصير، ولم تطاوعها نفسها أن تهبها لأحد آخر. حتى أتيت أنا وسألتها عن قماش الجلابيات. وربما عن كل الحكايات العزيزة التي لن تأتيك طوعاً، إلا أن أتيتها قاصداً ترجو رجاها. ربما تكرمك بسكناها.
- صورة القمر في أعلى التدوينة هي لسيّدة من عمان في 1972، للمصوّر الفرنسي المغربي الأصل برونو باربي.