هناك إنجازات تأتي ومعها وحدة قياسها. شهادة ماجستير. 4 سنوات خبرة. تسليم مشروع. وظيفة جديدة.
ولكن ماذا عن الإنجازات المُجَرّدة؟ ليس معها إرشادات كمّية تسهّل علينا إدراجها في بورتفوليو حياتي وحياتك؟ تلك التي نتعامل معها غالباً وكأنها تحوّلات شخصية، ليس لها، أو لنا، تسجيلها كأعمال قدّمنا فيها الجهد، وبذلنا لها الطاقة.
ماذا عن الجدار الذي تسلّقته كي تضبط غضبك، عن النهر الذي عبرته كي تصبح شخصاً ” أكثر”. عن الحماقات الكثيرة التي سمحت لنفسك بارتكابها مرةً بعد مرة، إلى أن توقفت وقلت يكفي؟
ماذا عن الالتزام الحقيقي بأن تكون حاضراً لعائلتك، لأصدقائك.. وأنت في الأصل قد يروق لك الغياب. ماذا عن سنة الفراق؟ ماذا عن سنوات الصبر على المسؤوليات؟ ماذا عن المفاوضات الضمنية التي أجريتها لشهور كي تصل إلى اطمئنانٍ ما مع شريك حياتك؟
ماذا عن استيقاظك صباحاً، يوماً بعد يوم، تيقظ نيّتك الطيبة معك، تجاهد لأن تجعل هذا اليوم يوماً طيباً لك ولغيرك، مهما تعرّضت لك فيه أحداث الحياة؟
أين هذه الإنجازات من إنجازاتنا؟ وكيف نقارن صعوبتها الخُرافية بالسهولة النسبية التي يتطلّبها التعلّم لشهادة، أو التركيز في عمل ما للانتهاء منه؟
أقرأ هذه الأيام في مذكرات جيم هنسون، مبتكر شخصية الضفدع كامل ورفاقه، وكانت مفاجأة سعيدة لما لقيت إنه في ١٩٦٥ بدأ في تسجيل ” إنجازاته” سنوياً في دفتر أحمر، تتجاور فيه أحداث العمل، كإطلاقه لشخصية جديدة، مع حضوره لعيد ميلاد ابنته رغم كل الضرورات المهنية التي تحتّم عليه الغياب عنه. هذه ليست فكرة جديدة. بل تكاد تكون فكرة ” معتادة”. لم إذن تغيب عنّا؟

التحولات الداخلية هي ما تصنع حياتنا. وهي ما تسمح لنا بأن نكون. وكل ما غيرها من مقاييس تعارفنا عليها، عبارة عن نتائج لهذه التحوّلات، أو ينبغي أن تكون كذلك. وهذه التدوينة نداء عاجل لكل الإنجازات المُجرّدة التي قدمتها لنفسك في حياتك. بدون وحدة قياس. هي إنجازات حقيقية، وأهمية أن نستطيع التعرّف عليها، والتعامل معها على أنها ” إنجازات” مقابل كونها ” أفكار واتجاهات”، تتجاوز مجرد تهنئة نفسك بما حققته حتى الآن.. هي مفصلية في قيادتك لحياتك، وفي تحقيق رضاك الحقيقي.
الفكرة التي وصلت لها- بعد تجريب- هي أن أصنع وحدات قياسي الخاصة بي. تسألني كيف. أقول لك بالحكي. بأن تعطي المُجرّد لغته. اسمه وصفته. وأن تعود إليه كتاريخ وثّقته رسمياً في مذكراتك وفي أحاديثك للمقربين. ” الدكتوراة” اسم. ضع لإدراكاتك، لإنجازاتك المُجرّدة أسماءً كذلك، وڤوالا، باتت معالم تستطيع زيارتها والاتفاق على وجودها المحسوس.
أعود لسنة 2014 بأنها سنة ” زيديني عشقاً زيديني”، وبمجرد أن أذكر اسمها أمام صديقتي العزيزة أو أختي، لا أحتاج أن أشرح ما أعنيه بها- أؤكد لك، ليس للمعنى علاقة بالعشق والغراميات إطلاقاً- لأنني في تلك السنة كانت الفكرة وراء هذه التسمية هي شغلي الشاغل، والإنجاز المُجرّد الذي أتت به وأتى بها، سمح لي بأن أعيش السنة القادمة، 2015، بمجموعة جديدة، ومنتعشة، من الإنجازات المُجرّدة الأخرى.
أي غاية أنبل، وأكثر حقيقية، من الاتصال بذواتنا. أن نسمع لها، وأن نحافظ على نقاء صوتها، في ظل الدوشة المستمرة، الصاخبة المؤثرة، التي تحيط بنا.
أن تظل حقيقتك متماسّة، بشكل مباشر، مع أيامك.
ألا يغلبها الصوت الأعلى، أياً كان.. يظل صوتها واضحاً، حكيماً، له كل الاحترام والوعي. أن تمشي في طريقك مستمتعاً بمعانيك الخاصة. بأفكارك، وبتحدّياتك، وحتى بعفاريتك. وأن تكون كل محطة تصل لها هي محطة تريد أن تصل لها، ليس لأنك رأيتها في طريق فلان، أو أوصى بها العقل الجمعي لمجتمع علّان. المساحة الوحيدة التي أستطيع أن أرى ذلك متحققاً فيها هي في أن تبدأ بحساب إنجازاتك المُجرّدة أولاً، قبل أي إنجازات، أو نتائج، أخرى.
- الصورة في أول التدوينة هي لجيم هنسون، في مكتبه بمنزله بنيويورك. تجد الكتاب هنا.
- عنوان التدوينة ” 152 نافذة على الروح” مُقتبس من حوار بين ميج رايان وتوم هانكس في فيلم ” You’ve Got Mail“.