استمعت اليوم الصباح لأغنية ” يقول إنني فضّلت” لأبوبكر سالم وكلمات حسين المحضار. رحمهما الله.
فجأة شعرت بحنين إلى صوته، فراجعت ما أعرفه من أغانيه، وهي ليست كثيرة، ووضعتها في قائمة أستمع إليها. وضمّنت القائمة لـ ” يقول إنني فضّلت” لأنها من أغاني أختي المفضّلة، وإن كنت وقتها لا أتذكر شيئاً منها سوى موضوعها الذي يقوله عنوانها.. حوار درامي بين أحبّة لا يثق واحدهم في محبّة الآخر. وهذا موضوع لا أميل له.
تفاجأت بالأغنية. تفاجأت بأشياء بسيطة، ولكن طاغية، فيها. كلما استمعت لأغنية من كلمات المحضار، أتذكر صديقة والدتي التي عملت معها في وقت من الأوقات ( في سنة فاصلة بين الثانوية والجامعة)، وهي من بنات أخيه رحمه الله. وأرى في كلماته، وفي الصديقة الغالية، ملامح ما أسمّيه بـ ” الطبع المحضاري”. الطيبة اللّينة. الكبرياء الهادئ. الوفاء. الاحتفاظ بملامح الذات منفصلة ومُصانة عن القريب مهما بلغ قربه. الأمل المتوازن في أن العشرة تغلب الجفاء، والأمور في النهاية تصل إلى نتيجة مُرضية بعد كل شيء. أرى هذا الطبع، كثيراً، في الصديقة الخالة، وأراه أيضاً بشكلٍ كافٍ في صديقة ثالثة لهما، وإن كان الطبع معها لا تغلبها الطيبة اللّينة، بل الحزم الذي يكاد يكون- ولا يكون- مسترخياً.
تبدأ الأغنية بمكالمة تليفونية بين أبو بكر والمحضار رحمهما الله. أستغرب من لفتات كهذه في الأعمال الفنية القديمة. لست أدري مصدر استغرابي بالضبط، ولكني أرى فيها عناية، وأميال كثيرة بعد ما هو مطلوب. كيف فكروا وقتها؟ الأغنية كٌتبت وسُجّلت- يبدو لي- في النصف الثاني من التسعينيات. وقتها أبو بكر رحمه الله كان يحمل الجنسية السعودية ومستقر في المملكة. لم تكن هناك أسطورة دبي بعد، واليمن عاد إلى استقراره، تقول ويكيبيديا، بعد حرب الانفصال في 1994.
ماجد المهندس حصل على الجنسية السعودية أيضاً قبل سنوات. وهويّته العراقية تكاد لا تبين في أغانيه. لا أقارن المهندس بأبو بكر أبداً. الأول جزء من صفحة في التاريخ، والثاني كتب التاريخ بنفسه. لكن الفكرة من استدعائي لماجد المهندس هو أن الثقافة الغالبة، والجمهور الغالب، يغلبان. ظاهرة ابن خلدون دائماً تفوز. ماذا يسمّيها الأمريكان؟ Cultural Assimilation.
ما أظنه أن الجمهور السعودي لم يكن يشعر بكثير، أو قليل، من الحماسة تجاه اليمن كثقافة في التسعينيات. ثم يأتي أبو بكر، رحمه الله، ويسجّل أغنية مغرقة في اليمنية، كمعظم أغانيه. ولكنه لا يكتفي بذلك فقط، بل يبدأها بتسجيل بينه وبين المحضار رحمه الله، وفيه يطلب من المحضار ” هات الكلام”. وحديثه معه، رغم اختصاره، يمني ليس فيه أدنى تسوية. حتى الأصوات التي يطلقها، مثل: ” هاه”، تصر على يمنيتها. وكان بالإمكان أن يستبدلها بصوت أبيض لا يتخلى فيه عن هويّته، ولكنه أيضاً لا يدخل في صراع شديد التباين مع المجتمع المُضيف. وتبلغ راحة أبو بكر أقصاها عندما يحث المحضار لأن ” حنحن به بس أنته. حنحن بوه”. ويقصد بها أن يلحّن القصيدة متمتماً بها كي يسمعها أبو بكر م اللحن.
أفكر أن هناك مبرراً قد يكون ذا وجاهة أوّلية لاحتفاظ بلفقيه بهوّيته لم تُمسّ. وهو أنه كان يتوجه إلى الجالية اليمنية العريضة في المملكة والخليج، وبناءً عليه، لا يحتاج لأن يتأقلم مع البلد المُضيف بما أن بلده المضيف هو عبارة عن امتداد لوطنه الأول. ولكني لست مقتنعة بذلك على الإطلاق. بل أراها قراءة سطحية. الحقيقة أن بلفقيه هو جزء من التجربة اليمنية في الخليج، وظل يعبّر عن كيانه وهو جزء منها، ولم يعبّر عنه فقط لجمهور التجربة اليمنية، بل ” مدّ الجسور” لتجد التجربة اليمنية، على الأقل الموسيقية منها، تجاوباً وترحيباً، بل وأخويّة، من شرائح الجمهور القريبة منها، وليست هي.
في فترة سابقة- فترة سابقة مين؟ كل 2018 إن أردت الصدق- كنت أقضي وقتي في استكشاف حديث برنيه براون. حديثها عن الشجاعة والانكشاف. ووصلت إلى تفاهم مع ما يزعجني منها، وما يمكن أن أتقبله. ومن هدايا ذلك الوقت، تسجيل على أوديبل لمجموعة من المحاضرات التي ألقتها على جمهورٍ ما كبرنامجٍ تعليمي. وناسبتني المادة جداً، كونها عفوية، وفيها الكثير من الفكاهة والجانب الإنساني الذي عادةً ما يفصلنا عنه أناقة كتبها وجدّيتها. المادة هذه عبارة عن ست ساعات تستكشف فيها أفكارها عن الشجاعة والانكشاف. مدّة كافية جداً لتذهب أنت أيضاً، كمستمع، في رحلتك الخاصة لهذه المناطق الحرجة.
الفكرة التي استوقفتني كثيراً في هذه المادة هي حديثها عن الاندماج. الـ Fitting in. تقول، بكثير من التصرّف، أن العائق الأساسي أمام قبول الذات هو الاندماج. تعرّف الاندماج على أنه ” تقييم ثم تأقّلم”. تقييم لمن أمامك. تفترض ماذا يحب. تفترض ماذا يكره. تفترض ما الذي يحوز على احترامه. تفترض ما الذي يعجبه ويرضيه. ثم تصيغ مظهرك الخارجي، أفكارك ومشاعرك ومواقفك وآراءك، كيلا تصطدم به. تضع نفسك في إناء، وتطلب منها أن تتأقلم.
لم نحتاج إلى التقييم والتأقّلم؟ لأننا نخاف أن يٌحكم علينا. من ألا نكون كافيين كما نحن. فلما نأتِ إلى الآخر، ونيتنا الاندماج، ثم نفشل في بناء الصلة/ الانتماء، رغم أننا بذلنا كل ما بوسعنا كي نتأقلم معه. النتيجة هي تأكيد الفكرة الأصلية. لسنا كافيين. أتينا وهدفنا الأساسي أن نتّصل. ورُددنا، خائبين، بخفّي حنين.
بينما لو أتينا إلى الآخر، ونيتنا أن يرانا الآخر. ألا نقايض استحقاقنا الذاتي بمقابل إتاحة الفرصة لنا لنُقبل ضمن الجماعة، ثم فشلنا في بناء الصلات، فالنتيجة قد تكون خيبة أمل، بعض الارتباك أو الأسى، ولكن هذه المشاعر لا تمس صورتنا عن أنفسنا، وقبولنا لها.
بلفقيه، لم يكن ليكون بلفقيه، إن أفسح المجال لعمليات التقييم والتأقلم. وماجد المهندس، عمره ما راح يقترب من مكان بلفقيه، طالما سمح لهذه العمليات بالوجود، ولم يمد يده على طولها، ليتناول من هو حقيقةً. دون مقايضات.
أنا وأنت؟ نحن لسنا بماء.
- الصورة في أول التدوينة تجمع بين العملاقين المحضار وبلفقيه. من تويتر. ولم أحتفظ بمعرّف صاحبها للأسف، فليعذرني.