طعم البيوت

أضع لنفسي موعداً لا أتجاوزه لشرب القهوة. الساعة ٧:٣٠ مساءً، أحاول بكل الإمكان أن أشربها قبل الموعد بساعات. لكني غالباً لا أفلح إلا في شربها قريب الموعد.

اليوم أشرب قهوتي، على أنغام ألبوم محمد منير الأسطوري ” طعم البيوت“، الساعة الثامنة والربع تماماً. وفي هذا دليل كافٍ على ازدحام يومي، بل وهرولته.

هناك فعل انجليزي أحب وقعه على أذني. Hurl. بمعنى يقذف. أو بالأحرى، يرشق. أحبه لأنه يبدو لي وكأنه كلمة عربية غيّرت رأيها في آخر لحظة وصارت إنجليزية. أحب العربية وأعتزّ بها وكأنما هي عرق أخضر في عروقي. وكأنما؟ لا، بدون التشبيه. هي عِرقي ودمّي وذرات رمل جسدي.

واحد من أهم المؤرخين للثورة الأمريكية- كما تقول الإنترنت ولّا أنا ايش درّاني- اسمه دانيال بورستين. الثورة الأمريكية كانت عبارة عن سعي ١٣ ولاية للاستقلال الكامل عن التبعية البريطانية (ضرائب وبرلمان) في السنوات (١٧٦٥- ١٧٩١). نظرية بورستين تقول أن الثورة الأمريكية هي ثورة صغيرة. تكاد تكون هامشية مقارنة بعنف ونبل بقية الثورات. وأننا إن أردنا النظر للثورة الأمريكية على حقيقتها، فعلينا أن نفهمها ونرصدها ليس كحدث تاريخي محدد، بل تغيّر يحدث في نفسية الإنسان المهاجر عند عبوره المحيط. الثورة الأمريكية، كما يراها بورستين، هي فعل بصيغة المضارع.

كلام رايق وممتع، لكنه يصل في النهاية إلى نفس كليشيه ” أرض الأحلام”. ربما كنت سأتقبّله بكل مافيّ إن كان عن عربيّتي. عربيتي هي فعل مضارع، ولغتي هي فعل مضارع. وهي كذلك حرف نفي. كما في: لا أستطيع تخيّل الحياة بدونه.

الملف الذي قضيت كل النهار أعمل عليه انتهى. أنهيته، لم ينته لوحده بالطبع. الحمدلله على كرمه وتوفيقه. وبدلاً من أن أرسله لأهله، أدعه يبرد على كمبيوتري. لم؟ لأني لا أحب العجلة. بالأمس كنت أتحدث مع صديقة. قلت لها أن أفعالنا تبدو منطقية. ولكنها ليست كذلك. هي منطقية بناءً على كتاب قوانين لم نعرفه بعد. أهل العلوم السلوكية والاجتماعية يحاولون فكّ طلاسمها إبرة إبرة وسط أكوام لا نهائية من كثبان الرمل. الملف ” حار”. لا أريد أن أرسله حاراً. أريده أن يبرد. لابد أن واحدة ممن تقرأ لي، أو اثنتين، تفكّر: لا ندعه يبرد، لا ندعه يبرد أبداً. كلّنا في اللاعقلانية، يا عزيزتي، سواء.

هذه الأيام، الشهور الماضية، نعم أستطيع أن أحددها بوقت: منذ فبراير ٢٠٢١، أجرّب أن أستكشف مساحة مهنيّة جديدة تماماً علي. عملت بمشاريع صغيرة: ٣ مشاريع مدفوعة بميزانيات صغيرة، ومشروع كان عرضاً لم يتم إلى نهايته. المهم أنني في كل مرة أقدم هذه الأعمال أشعر بأنني نشرت جزءًا منّي على حبل غسيل.

المصادفة أن هذه الصورة الذهنية، صورة حبل الغسيل، ظهرت أمامي قبل شهور، ثم وجدت أن تاونسكيبر– لعبتي الجديدة المفضّلة، تستخدم حبل غسيل حرفي كي تضفي على الأبراج التي تبنيها حميميةً ما. الملف يحوي مشروعاً رابعاً أقدمه، ومرة أخرى أشعر بنفس الشعور المكشوف. وحبل الغسيل يتمايل مع الهواء في السماء.

أنهيت قهوتي. وانتهى ألبوم منير الجميل. أختم حديثي هنا وأصابعي قد انتقلت سلفاً للوحة المفاتيح كي ترسل الملف عبر الإيميل. أظن أن قرار القهوة المتأخرة كان حكيماً ومراعياً.

6 رأي حول “طعم البيوت”

  1. أ.فاطمة اسلوبك في السرد جميل..
    السابعة و نصف مساء لتناول القهوة !
    شخصيا اشرب 3 اكوب من القهوة في اليوم ككل (كوبين صباحا و واحد بعد 2 زوالا فقط لا قهوة في المساء او ليلا أظن ان كتاب لماذا ننام؟ كان عامل مساعد هذا العام لضبط اوقات شرب القهوة.).

    إعجاب

      1. المشكلة هنا انك تزيدين وقت بقائك مستيقظة ليلا….شخصيا ليست مرتبطا بالقهوة فمثلا هذا الصباح شربت كوب واحد من الشكولاته الساخنة و اضفت ملعقة صغيرة من القهوة المطحونة (لا احب سريعة التحظير) حاولي ان تجربي مشروبي صباحا او مساءا و اشكريني لاحقا…)

        Liked by 1 person

أضف تعليق