عندي دفتر اشتريته من مينو سو ب١٨ ريال قبل كم شهر. وكل ما فكرت أفتحه أكتب فيه، استخسرت الموضوع. لسبب ما اكتسب جماله عندي بعداً أسطورياً لا يتناسب مع ” عاديّة” مواضيعي.
في نفس الوقت، مكتبي مليء بالدفاتر الأخرى، بعضها سعره أقل من ١٨ ريال، ولكن أكثرها أغلى بالتأكيد من ١٨ ريال. لا أتذكر أسعار دفاتري بالضبط، ولكني أعرف أن ١٨ ريال هو سعر معقول (رخيص) على دفتر بتجليد قاسي وورق عريض مختلف عن الورق المعياري المعتاد.
كررت عبارة ” ١٨ ريال” في المقطع السابق أكثر من مرة، صح؟ ذلك لأني أريد- واعية وغير واعية- أن أؤكد على أن السعر لا يتناسب بأي حال من الأحوال مع المكانة التي قرر عقلي أن يمنحها للدفتر. بيني وبين مينو سو في المول القريب من بيتي أقل من ١٥ دقيقة. أستطيع أن أذهب الآن وآتي بخمس دفاتر من نفس النوع.
المسألة إذن لا تتعلق بعقلية الندرة. الأمر لا يتعلق بفكرة أنني إذا فتحت الدفتر لن يعود عندي خيار الدفتر.
كل ما في الأمر أنني قررت، بدون حيلة حقيقية منّي، أن هذا الدفتر منسوج بخيوط الذهب. أو آتٍ من حقبة سلالة مينج الملكية الصينية في القرن الرابع عشر الميلادي.
دخلت المطبخ في وقت مبكّر من العصرية ووجدت ملفوفة عملاقة على الطاولة. يبدو أنه موسم الملفوف في قرارات شراء والدي المنزلية للخضار. الملفوفة الماضية، أصغر بكثير من الحجم العائلي، أعرف أنها طُبخت سريعاً وحُفظت في الفريزر بما أنه لم يكن لها مكان ضمن طبخات الأسبوع الماضي.
وبهذه الالتفاتة الصغيرة، قضيت عصريتي، على رواق لكن بدون تخطيط، أعمل شوربة ملفوف. آخر أخبارها أنها مفعمة بالنكهة، والحمدلله، في كل ملليتر منها. لكن ملحها زاد أكثر قليلاً، قليلاً حبّة، عمّا أحبه.. وهكذا يفضّله أهل البيت.
بالأمس كتبت عن حبّة الملفوف العملاقة التي قررت، نيابةً عنّي، كيف سأقضي عصرية الثلاثاء.
يوم ما قبل أمس كتبت عن دفتر مينو سو، بـ١٨ ريال، والذي قرر عقلي أنه تحفة فنّية من سلالة مينج الملكية الصينية.
اليوم أحتفل، وأحتفي، بجملة من خمس كلمات، قدّمت لي حلّا كنت أحتاجه للعمل، أبحث عنه أنا وعميلي منذ أكثر من سنة. في كل مرة يتحدّث فيها معي، مرة كل شهر أو شهرين، في آخر المكالمة وقت السلامات والشكر، يسألني: ” بالمناسبة شفتِ لنا حكاية كذا وكذا؟” فأقول له: ” لا والله لسّه”، فيقول أنه كذا ولّا كذّا بتترتب الأمور، لا نقلق.
اليوم، على حين غرّة، ظهر الحلّ. بوضوح. بيقين. بفهم. وبتبرير منظوم كعقد من الزمرّد (ابنة أختي هذه الأيام مشغولة بالزمرّد) يشرح لي أشياء كانت تتجمّع عندي على مدار أسابيع، وحكايات تظهر في حديثي مع صديقاتي بدون سبب. ألهذا جمعتنا؟ بارك الله فيك، وحيّاك وبيّاك.
لم أشارك العميل الحلّ. الحلّ هو قصّتي أنا، ولكي يكون مستعداً ليكون قصّة العميل، يحتاج إلى ترجمة. تقارير وعروض وأدلّة وخطّة عمل. وإن كان هذا العميل بالذات من أكثر الناس الذين رأيتهم ” يعطوا الخبز لخبّازه” بشكل مدهش. ما إن يثق في كفاءة المتعاون معه، يسلّمه الجمل في أمره بما حمل.
الساعة الآن تقترب من الخامسة عصراً. لم أفعل شيئاً يتعلّق بالعمل طيلة النهار سوى كتابة هذه العبارة في نوتة جوالي. في دفتري. في المستند الخاص بالعمل. لم أشرح. لم أضع التبارير. لم أبحث أكثر. لم أطّلع ولم أغص في التفاصيل.
هكذا تعلّمت أن أحترم مساحة الخلاصات العقلية التي تأتي فجأة بهذا اليقين. إن استعجلت عليها، أفسدّتها. إن أردت أن أحوّلها إلى واقع ملموس قبل أن ترتاح مع نفسها ومع مكانها في هذا الوجود، تحوّلت إلى احتماليّة عادية قُتلت بحثاً، وأغلقت أمامي الحقائق الأخرى التي ستتكشف لي في الأسابيع القادمة رويداً رويدا.
هذا الإيمان، الإيمان بـ إجراءات مصيرية في التعامل مع الأفكار المجرّدة من هذا النوع، أشبه بأن أقفز من على قمّة جبل إلى البحيرة، وأنا واثقة بدون أي دليل، أن الماء سيرحّب بي. العالم يقول لي: تحرّك. وثّق. دوّن. اقبض على الفكرة وقيّدها بالسلاسل. وأنا أقول لا لا لا تضايقونه الترف لا تضايقونه.
هناك بعض الشكوك التي تحاول التسلّق على جدران حمايتي، لكني أبعدها بهبّة هواء من يدي. فوائد التقدّم في العمر كثيرة، من أطيبها سياج من الحكمة الهادئة التي تمنع عن العشب الأخضر الرقيق حوافر غير مرغوب بها. أراها بعيني، لكني لا ألقي لها بالاً. لم يكن هذا هو الحال في عشريناتي.
ربما تساءلت إن كنت سأنزع التغليف عن دفتر مينو سو مادامت فكرة مهمة قد أتت، وتحتاج لها دفتر جديد. تساءلت- حقّاً- معك. وأتاري الإجابة كانت ” لا” قاطعة. الدفتر يحتاج لفكرة جميلة. وهذه العبارة، أم خمس كلمات، مفيدة وعملية وتحلّ ألغاز. لكن ليس الجمال ليس وصفاً ملائماً لها. يبقى إذن الدفتر على حاله. أما شوربة الملفوف، فقد وجدت طريقها، في زبدية قابلة للمايكرويفية، إلى مائدة غداء بيت أختي اليوم. وهذا أحلى مصير يمكن أن تنتهي إليه.
حسي عالق بالدفتر الجميل، قلت بقلبي: والله مش انتي بس اللي عالقة بدا الفخ الحمد لله والشكر🤭
كالعادة يا فاطمة، تكتبين مثل من يعجن الظروف ويطبخ منها شيء مختلف؛ بالتوفيق لك في إيجاد فكرة مدهشة لافتتاح الدفتر السحري👏
إعجابLiked by 1 person
ضحكتيني يا أسماء. لا مش لوحدك أبداً 😎
إعجابLiked by 1 person