شجر الرّمان (٢)



الجزء الأول هنا.


٦ مارس ١٩٦٨

بعد منتصف الليل. 

الباحة في الليل مثقلة بالورد. لا برائحته، بل بوعوده وأمانيه. 

تودّع زينب آخر ضيوفها بودّ وبالحلفان أنها ستردّ الزيارة قريباً، تلتفت بعد أن تغلق الباب لتطلب من أم سالم لمّ الفناجين المتبقية في السطح.

تتفحص الساحة بنظرة تبدو سريعة متفحّصة، لكن المناظر تمر بالحركة البطيئة أمام عينيها. تهزّ رأسها لتنفض أفكاراً لا ترحّب بوجودها، وبدلا من أن تجلس لدقائق أو لساعات بجانب شقائق النعمان، تتجاوزها بنفس السرعة. تدخل غرفة صفيّة بدون أن تدقّ الباب المردود.

تجدها جالسة على طرف السرير. تجفل قليلاً لرؤيتها. يستفزها ويقلقها التوهان الذي تعيشه أختها الصغرى. ألم يحن الوقت ليشتد عودها وتستجمع أمرها؟ لم تعد صغيرة، قريباً تصبح زوجة وأم، ربما.. 

ستفضحنا عند الرجل. ابن العمّة المحنّك الذي تزوج قبلها مرتين. أتظن أنه سيتحمّل سرحانها الطويل يوماً بعد يوم؟ 

وبدون إنذار، يتصاعد الدم إلى رأسها. من يظن نفسه؟ نزوجه صفيّة وهي في عمر ابنته. يحمد الله على النعمة، وإن ظنّ أنه يستطيع أن يوجّه لها كلمة لوم واحدة، فستقف هي في وجهه. هذا إن قالت لها الخائبة ما يجري بينهما. تكاد تحلف أنها ستتحمل منه الكلام الجارح دون أن تقول لأحد. وكأن لا ظهر لها. 

تسيطر على تيارات الغضب. لم يحنّ وقته بعد. تمدّ يدها وتنزع القرط الكريستالي من الأذن اليسرى، تميل بظهرها على التسريحة المقابلة للسرير، وتقول وعيناها مسبلتان، تدّعي الاسترخاء:

– حلوة أغاني الليلة.. 

– همم؟ جداً جدا.  

– لكنك كنتِ مشغولة قليلاً..

تفتح عينيها بترقّب، تنتظر الجواب. التقت العينان بالعينين، وساد صمت أطول بثوانٍ قليلة عما هو معهود. 

قالت: – يمكن. رأيت في المنام ما أقلقني. 

اقتربت بدون أن تشعر. توقفت أمامها: – خير؟ 

– حلمت بجدّي والمزرعة. 

وماذا أيضاً؟ 

– ما يدريني. أخشى أن يأتي الدور علينا قريباً. 

يا صفيّة تعوّذي من الشيطان. 

– زينب علينا أن نستعد، لا يمكننا ترك مصيرنا بأيديهم. خوّانين. 

ماذا تقصدين؟ تريدين السفر؟ 

– لا أريد السفر. لكني أريد أن أستعد إن أُجبرت على السفر. فتحت الخزينة… 

صاحت بدون أن تقصد: 

فتحتِ الخزينة! أجننتِ؟ ماهذا المنام الذي رأيتِه؟!

– هصص. نعم فتحتها، وأخرجت السندات والصكوك. وجوازات السفر. ربما نحتاج أن نتحرك على عجل!  

وماذا سيقول بن عمر؟ 

ردت صفيّة بعناد: وماذا سيقول؟ 

سيقول بأننا صغّرناه أمام أبناء العمّ والعمّات. سيقول بأننا اتفقنا من وراء ظهره وسرقنا الورث الذي أقنعهم..

– يكفيك يكفيك.. فتحتها لمصلحتنا جميعاً. لن نسرق حق أحد، سنحتفظ بها إن اضطررنا للخروج من البلد.

يعود الاثنين من البستان. ألا يمكنك انتظاره يومين ونرى مايقول؟

– يا زينب لا يمكننا الانتظار. ماذا لو قاموا علينا الليلة؟ ماذا لو أتت العساكر وحاوطوا البيت؟ 

سنهددهم ببن عمر. 

– بن عمر يأتي الاثنين. 

سكتت. لا يفاجئها إصرار صفيّة. لطالما صدقت رؤاها وكأنما حكمة الأهل على مدار السنين تجمّعت في مناماتها. ماذا لو صدقت الرؤى مرة أخرى. لا سمح الله. لا قدّر الله. 

أين وضعتها؟ 

– الجوازات في الخزانة. بقية الورق قسّمته بين حقيبتي وحقيبتك. 

وجواز أمك؟ 

– مع جوازاتنا. 

لا تتركي غرفتك مفتوحة إذن. كلما خرجت ودخلت أغلقيها بالمفتاح. الدار أمان لكن الشيطان شاطر. 

– طيّب. لا تخافي. 

– كيف لا أخاف؟

هذه المرة سكتت صفيّة. هزّت رأسها في تفاهم مشترك. وذهبت لغرفتها. في وسط الغرفة، توقّفت. فتحت كفّها، وحدّقت بالقرط البرّاق في وجوم.

قبيل الفجر

صوت يشقّ هدوء السَحر. ضربات عالية على الباب الكبير. تستيقظ مفزوعة وتشعر بمعدتها وكأنها تحمل الصخر. هذه نبؤة صفيّة لا شكّ. وما عندنا رجل يقف لهم. أنا الرجل. 

تنفض الغطاء الثقيل عن ساقها. تتحرك بلا تفكير، تغطي رأسها بالشال الذي ارتدته الليلة الماضية ليقيها من البرد، تخرج من الغرفة بدون أن تمسح عن عينيها أثر النوم. الباحة خالية، ولكن نساء الدار يتجمعن في الردهة البعيدة المؤدية للمطبخ. شيءٌ ما في تجمعهنّ يثير رعبها أكثر بكثير مما تفعله الطرقات المتتالية. أين سالم يا تُرى؟ ترجو ألا يمسّه الأذى. 

تصل إلى الباب. ومن وراءها تظهر والدتها، تحتمي باللحاف، وتتمتم مشدوهة: زينبصفية زينبصفية. تفتحه، فتمتد يدٌ جريئة فوراً من خلفه، قبل أن يظهر هو. يدفعها بغلظة ويقول: أيقظي ستّك. 

تعود إلى الوراء قليلاً قبل أن تستطيع الاتزان من جديد. في لحظة ما يتجمّع الفزع كلّه ليصبح غمامة بيضاء فوق رأسها، وتستبدله بالغضب، بالطبع الساخن الذي ورثته، فيما يقال، عن جدّها الأكبر. 

ردّت في حدّة: أنا ستّك، ابعد يدك وإلا قصّوها لك. ماذا تريدون؟ 

يشير إلى الرجال من خلفه، فيدخلون فناء الدار. يتجاوزون العشرة بالتأكيد. يقول:

– اعذرونا ما كان القصد. الوضع ليس آمناً لكم. أرسلوني لأنقلكم إلى الشمال ريثما تعود الأمور إلى طبيعتها. 

من أرسلك؟ 

– المحافظ. 

وأبو ابراهيم يرسلك هكذا في أنصاف الليالي؟ يدري عن درزينة الرجال وعن دكّ أبواب الناس؟ 

– كل هذا لحمايتكم، العذر منكم. 

سنرى ما القصد في الصباح. يزور الأهل المحافظة ويعرفون القصة. تفضّل أنت ورجالك من هنا.

– لا أستطيع يا سيدتي. هذه الأوامر وأنا هنا لتنفيذها فقط. 

إذن أوقظ المحافظ بنفسي وأتركه يتحدث إليك. لنرى كيف ستنفّذ الأوامر وقتها. تفضّل من هنا قبل أن… 

– لا أستطيع يا سيدتي، المعذرة. 

وبينما والدتها لازالت تتمتم باسميهما، وبينما لازالت صفيّة في غرفتها رغم كل هذا الضجيج، وبينما لم تتجرأ ولا واحدة من نساء الدار على الوقوف بجانبها، يتوزّع الرجال في صحن البيت. يفتحون الأبواب، يدخلون الغرف، يمسك أحدهم بمرفق والدتها ويدفعها إلى خارج البيت برداء نومها ولحافها، تمتد يد كبيرهم إليها، فما تدري إلا ويدها هي الأخرى ترتفع لتصفعه بظاهر كفّها. تمتد أيادٍ أخرى لتمنعها من الحركة، تصيح بأعلى صوتها، وتنطلق من فمها شتائم لم تكن تعرف قبلاً ما معانيها.

تخرج صفيّة من الغرفة وهي في حالة توهانها إياه، لكنها مع ذلك تحمل حقيبتين في يدها وتقول للجندي الذي يقودها: حقيبة يدي وحقيبة يد أختي، لا تتوقعوا منّا أن نخرج من البيت بدون حقائب؟ 

ماذا عن رداء النوم الذي يصل لنصف ساقي يا صفّو؟ تفكّر زينب. ولثوانٍ، أثناء مقاومتها الشرسة للأيادِ الحديدية، تظن أنها ستنفرط ضحكاً. 

ثم فجأة تنتبه إلى العويل الحزين الذي يصل إليها رغم كل الحوادث فيما حولها. أم سالم، تعقد يديها فوق رأسها وتنوح فيما يشبه الغناء: 

الويل الويل ياهلي. وين الرجال يا سالم؟ الويل الويل ياهلي. الويل الويل. 

ترتخي عضلاتها. تتوقف عن المقاومة. وتتركهم يقودونها مع أهلها لسيّاراتهم.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s