دكان مقفل. دكان مفتوح.

عندي صديقة عزيزة، تتحفظ على ذكر اسمها، عندها مؤسسة صغيرة. صغيرة، صغيرة، صغيرة.

بدأت قبل سنوات لا بأس بها. في ذلك الوقت لم تكن تفكر في العمل التجاري، ولكنها وجدت- بالصدفة تقريباً، وبكونها الشخص المناسب في اللحظة المناسبة- طلباً على خدمة تستطيع تقديمها، وتستمتع بالقيام بها، فاستجابت للطلب، وأسست عملها الخاص.

في البداية قامت بخطوات صغيرة للتسويق. حسب ما يسمح به المزاج، الوقت، والأفكار. ثم توقفت عن التسويق نهائياً. استثمرت عشرة آلاف ريال تقريباً في تطوير هوية وموقع إلكتروني، وباتت تجدد إيجار الموقع كل عام أو عامين. عندما يأتيها عميل جديد ترحب بالمشروع والرزق، وعندما لا يأتيها عميل جديد، لا تلقي بالاً إلى الأمر. 

تقول أنها في هذا الأمر تشبه جدّها، رحمه الله تعالى، والمعروف عنه أنه كان تاجراً سمحاً ورائقاً. ” هني وسهيان” كما في أغنية فيروز. يفتح الدكان، فإذا أتوا الزبائن أو لم يأتوا، يكفيه أنه قد فعل ما عليه.

وهي- بموقعها الإلكتروني- قد فتحت الدكان. ليست في الوقت الحالي مستعدة لأن تفعل أكثر.

تعمل من غرفتها، ومن عملائها أكبر الشركات السعودية، وكذلك أصغرهم. يأتون ويذهبون. يعودون أحياناً أو لا يعودون. وهي، في كل يوم عدا أيام الإجازات والأعياد، حاضرة لأن تفتح الدكان، وتستجيب للاتصالات والإيميلات.

كنت، ولازلت إلى درجة ما، أجد صعوبة في أن أستوعب جدوى ما تفعله. حتى مع معرفتي بأن دخل المشروع، قل أو كثر، لا يؤثر كثيراً على حياتها. لكن.. ألا تود أن تخطط؟ أن تتحرك؟ أن تسعى لتحقيق أهداف مالية من نوعٍ ما؟ طيب مشاريع؟ عملاء من نوع معين؟

وردّها المبتسم دائماً: ” أيوة بس أنا خلاص فتحت الدكان!”.

قبل سنوات فتحت الدكان الخاص بي، وفي الشهور الذي تلت ذلك فتحت دكاناً آخر، بالإضافة إلى مشاريع أخرى جانبية. وكنت في سياستي التجارية مختلفة جذرياً عن موقف الصديقة الرائقة. أحب أن أضع أهدافاً، أن أكون قادرة، بشكل مرن، على توقع المشاريع التي ستأتيني خلال السنة، أن أخطط، وأن أحقق الخطط أو أتفاجئ بما تأتي به الأيام رغم إحكامي للتخطيط وسعيي للوصول إلى ما أريد. لا تفهمني خطأ. إدارتي لعملي مسترخية في أغلب الأحيان، ورؤيتي للعمل التجاري وحتى الوظيفة تعتمد على أنها جزء من رحلة نمو، وليست الرحلة كاملة. نَفَسي طويل، إلى حدٍ ما، وأكره فكرة الضغط ومطاردة الإنجازات، وفقدان الرضا والرغبة في المزيد. لكن السيطرة على مقاليد الأمور، قدر الإمكان، هي فكرة جذابة ومهمة بالنسبة لي، أو كانت.. حتى قررت في لحظة جوهرية لامعة، أن أقفل الدكاكين.

في بداية 2018 تخلّصت من كل ارتباطاتي، وعدت أرى نفسي حرة من جديد. كانت خطوة ضرورية، ولكن لم يكن عندي مشروع ” احتياطي” آخر. كل ما في الأمر فتات خبز على الطريق وكأنما عقلة الأصبع، تعرف عقلة الأصبع؟ قد فتّه خصيصاً كي أعرف طريق العودة إلى البيت الذي أعرف بوجوده، لكنني لم أره قبل. أتمشى وألتقطه، وأفكر..

لم تكن لدي لافتة أعرّف فيها نفسي، وليست لدي دكاكين أديرها، وأستقبل أيامي على أساس ما تأتي به. لم أكن ضائعة. ولكني أشتاق للعودة إلى المنزل. وعقلي، بنزعاته المنهجية ورغبته في السيطرة على مقاليد الأمور، يود أن ينطلق. يود أن ” يلتهم” الطريق التهاماً. لا تناسبه المشية المسترخية أمام مشروع ضخم كهذا المشروع. مشروع أن أجد نفسي.

كنت في رحلة العودة إلى ما أنا عليه. وفي هذا الطريق، علي أن أتخلّى عن بعض ما أنا عليه.

ولم تكن رحلة سهلة. تتنازع على استقراري الموانئ. أيام تمضي هادئة، مستقرة، قنوعة. وأسابيع تمضي في حالة من التساؤل المُلِّح، القاسي، المُطالب.

وأنا دائماً، دائماً، أود للهدوء، والاستقرار، والرضا، الانتصار. فأظن أن مهمتي في المرحلة الأولى من الرحلة، بدون تخطيط، كانت أن ينتصر هذا على ذاك. أن تتحول أيام الهناء إلى أسابيع، وأن تتقلص المطالبات اللدودة لتصبح أياماً.. ثم ساعات. وإن أمكن، لحظات.

الكتابة ساعدتني. ولأن الصفحة البيضاء فخ كما يقول مؤمن عكل، لم أكتب على الورق أو على البرامج التي تتوقع مني أن أملأ السطور بالأحاديث المتماسكة. سجّلت على تويتر، وأغلقت الحساب فلم أتابع أحداً ولم يتابعني أحد. باتت الفقرات القصيرة هي ملاذي. أكتب خلال اليوم، كلما تعالت أمواجي تطالبني بأن أتحرك، كتبت قليلاً، وتفاهمت معها ومعي. أكتب. وأقرأ ما كتبت. ثم أكتب. وأقرأ ما كتبت.

القراءة، بالطبع القراءة، ساعدتني. توقفت عن قراءة الكتب التي تحفّز رغبتي في الوصول، وبتّ أبحث عن تلك التي تساعدني على الاستمتاع بمعالم الطريق.

وجربت أشياء كثيرة أخرى. ممتعة وغير ممتعة. بالإضافة- طبعاً- إلى استجابتي لرغبتي في التحرك من وقت لآخر، وفي أغلب الأوقات، كنت أخضع هذه الحركة لمقياس واحد: هل ستساعدك هذه المُلهيات كي تصلي إلى ما تريدين الوصول إليه؟ وإن لم تساعدك، هل ستمنعك؟ وإذا لم تمنعك، هل ستأخذ منك طاقة، ومساحة، تحبين توجيهها للرحلة الأهم؟

فإن لم تساعدني، ولم تمنعني أو تشتتني، استجبت لها.

وفي بداية 2019، أي بعد ما يقارب العام، بدأت أخيراً في التخلّي. في أن أترك فعلياً الزمام، وأسمح لعقلي بأن يتجول على راحته. وبالرغم من ذلك لم أصل إلا في نهاية العام. على مدار الأسابيع الماضية فقط بدأت القطع المختلفة في التساقط بين يدي في سلسلة واضحة، مرتبة، ومنطقية. تبدو بديهية وأنيقة عندما أجرب الحديث عنها، بينما أعرف جيداً النفق الذي احتجت المرور به قبلها.

أعرف الآن أن الفكرة وراء ” فتح الدكان” ليست أن تتخلى عن وضع الأهداف، عن التخطيط والعمل بجدّية للوصول إلى ما تريد. الفكرة هي أن تتخلى عن الظن بأن الأمور تحت سيطرتك، أو أن ترغب أصلاً في أن تكون تحت سيطرتك. أنا وصديقتي العزيزة على نفس الصفحة الآن. رغم أنني لم أتخل، فعلياً، عن طريقتي المنهجية في العمل. لكن تعلّمت أن عليك أن تفصل بين ما تود أن تفعله، وبين الوصول. الوصول إلى المعرفة التي تحتاجها. الوقت المتسع. الفهم. المشاريع. الأهداف التي تريد لا الأهداف الذي يتوقعها الجميع منك. الوصول رزق لا علاقة لجهدك به، طالما تفعل ما تشعر بأنه مناسب، افعله..

” افتح الدكان” بأي طريقة تناسبك، واترك الوصول على الله.  

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s