شجر الرمان



٥ مارس ١٩٦٤

في الضحى

الحياة هانئة وآمنة في البيت الكبير.

تستيقظ كل خميس وفي صدرها انشراح. يشبه امتلاءه بنسمة باردة هبّت فجأة على الفناء. ولكنها صباح هذا الخميس لم تنشغل كثيراً بالأمسية التي تنتظرها في المساء. في فمها طعم التربة والجذور التي اُقتلعت مع الأشجار المصفوفة واحدة تلو الأخرى، كعقد مرجان انفرطت حباته في عجل.

تحاول أن تسترجع الطقوس التي يحفظها لها إرثها عند الاستيقاظ على حلم مفزع، ولكن الكلمات تتبخر بمجرد أن تمسها أصابعها. فلا تتذكر. ما الخطوات التي عليها أن تقوم بها كي تنزع عباءة الحلم عن يومها. ويهمس لها حدسها. لم يكن حُلماً. بل هي رؤية.

تستعيذ بالله. تترك السرير لتباشر صباحها. ترتاح للهدوء المحيط بها رغم معرفتها بأن المطبخ يعجّ بالحركة منذ الفجر. الزوار في الديوان يتوافدون. بانتظار صواني الفطور، فناجين القهوة والشاي، موائد الغداء. ولكنه في أقصى الدار، والفتيات يقمن بواجبهن كالمعتاد، فلا تصلها عجلته. تتباطىء في حركتها عن عمد كي تستعيد هدوءها بدون أن يلمح أحدٌ من المقرّبين اضطرابها. زينب، الأخت الكبرى التي تدير البيت بعد أن تراجعت عافية الوالدة في السنوات الأخيرة لن يفوتها أن تسجّل تغيّرها، وهي لا ترغب أن تلفت الانتباه. لن تفلت تفصيلة كهذه من عينها الفاحصة حتى وإن كانت مشغولة بعشرات التفاصيل الأخرى. فتحاول استعادة أنفاسها، وتحاول أن تستعيد الابتسامة الهادئة التي يحتاجها أهل المنزل دائماً.

تلمح من شرفتها المفتوحة على الساحة فتاةً تحمل أقداحاً فارغة من الخزينة الداخلية. يبدو أن الديوان ممتلئ أكثر مما هو معتاد لتسمح لها زينب بأن تلجأ إلى كَبَد أهل الدار. تهز رأسها بالتحيّة فتشرق ابتسامة البنت، وتمضي مسرعةً تريد أن تقوم بما هو مطلوب منها وأن تلحق خدمة السيدة قبل الأخريات. تستميل الفكرة الطيبة القلب المشغول. تُهدّأ من روعه، وتدفعه إلى إشراقات اليوم.

أمضت الأسبوعين الماضيين وهي تخيط آخر فساتينها. عُرفت نساء البيت بإجادتهن للخياطة. وبينما تنتظر سيدات المدينة وصول فساتينهن على يد الخيّاطات، تقصّ أقمشتها وتخيّط فساتينها، كما تفعل زينب، بناءً على ما تقترحه صور فاتن حمامة ونادية لطفي في آخر أعداد المجلات التي وصلت للساحل بعد أسابيع من صدورها.

سترتدي الفستان المشجّر الليلة. عندما يصعد الكل متأنقاً إلى سطح البيت، ويستمع الصغير والكبير إلى ما ستقوله أم كلثوم في حفلة الخميس على الراديو. تفكر في تسريحة الشعر، وفي زينة الذهب. وتفكر في ابن العمّة البعيد. يحضرُ مؤتمر الصلح في تلك العاصمة الأوروبية. تتمنى له التوفيق- بعملية محايدة تشي بحياء القلب من أن ينشغل العقل به.

تفكر في أحداث الشهور الأخيرة. خلال الأسابيع الماضية لم تتكرر الصدامات بنفس الوتيرة التي كانت. نساء البيت يتنفسن الصعداء، ويأملن أن تكون هذه بداية لاختفاء الشغب تماماً، وعودة الحياة هادئة وهانئة، ليس فقط في البيت الكبير، بل في البلد بأكملها. ولكنها تستطيع أن تحرز أن الآخرين لا يشاركونهم الشعور نفسه. وأن بعض زوار الديوان، حتى زوار الديوان، لابد أنهم أيضاً يرغبون في التغيير. يعود للروح جفولها. وتتساءل عن مساعي المسافر، هل سيرجع بالصلح، أم أن هذا المؤتمر مثله مثل غيره، لولا اختلاف المكان.

تتذكر الحلم مرةً أخرى. تستعيذ بالله من الشيطان الرجيم. تنفث ثلاثة على يسارها. ولكنها أيضاً تستطيع أن تطُل على الحلم، الرؤية، بالحكمة السمائية التي عُرفت بها. الجد، كبير الأسرة الذي توفّى قبل سنوات، كان على قيد الحياة. على سريره يتحدّث كعادته إلى الأبناء. ثم كعادة الأحلام يختلف المشهد فترى البستان الكبير الذي يقع في المسافة بين المدينة والعاصمة. لحظة من الهدوء، ثم يصب أحدهم.. لم تره.. من أسطوانة كبيرة سائلاً ما، فتتطاير على إثره صفوف أشجار الرّمان واحدة تلو الأخرى بترتيبٍ مُحكم يقتلح القلب خوفاً وحزناً.

تخشى من أن تفكر في تفسير الحلم، ولكن المعنى قد استقر ووقع. فتنخطف أنفاسها للحظة، ثم تهز رأسها وتترك غرفتها، بأحلامها وأسرارها، إلى فناء الدار.

 

في المساء

متأنقة، تشبه في طلعتها البهيّة النجمات، تصعد إلى السطح مع زائرات من الجيران. لا تتوقف عن تبادل المجاملات والعبارات المتبسّطة مع الفتيات، ولكن قلبها تمسكه قبضة من جليد. جيّد أنها أتت بشال الكتّان معها، يبدو أنها ستكون ليلة باردة.

أم كلثوم تغنّي ” لسه فاكر”. الموسيقى متفائلة، والكلمات لا تبعث في نفسها الحزن بقدر ما تعدها بتجاوزه. تلمح بطرف عينها والدتها وهي تشدّ شالها على كتفها وكأنما لا تستطيع أن تتدفئ بما فيه الكفاية. تنزع الشال من على كتفيها، وتقوم من على الكرسي لتفرده على كتفي الوالدة. تبتسم لها ابتسامة مُغيّبة ككل ابتساماتها، لكن فيها ما يشبه الامتنان الشاكر. يكفيها.

تعود لكرسيها، لكنها لا تستقر في مكانها. تتذكر قصصاً عن أسرٍ صديقة في الدولة المجاورة، تغيّرت حياتهم بين يومٍ وليلة. وتتذكر الحلم. انتهت الأغنية، وبدأت المقدمة الموسيقية لأغنية جديدة. في ثانية اتخذت قرارها. مالت على الصديقة بجانبها، تخبرها بأنها ستنزل إلى غرفتها لتأتِ بشال آخر، ثم توجّهت بعينيها لزينب التي تنظر إليها مستفسرة. ما الأمر. لست على بعضك اليوم. تتجاهل السؤال الثاني، وتحرّك يديها وكأنما تضع الشال المُتخيّل على كتفيها وتحرّك شفتيها بدون كلام ” من تحت”. فتهز زينب رأسها بالفهم.

تنزل لغرفتها. تجلس على السرير وتنزع الكعب لترتدي الخُف، لا تريد لطرقات الكعب أن تلفت الانتباه.

تحتاج لأن تستعد. ولكن لِم تستعد؟ وكيف تستعد؟

تستعد لمغادرة البيت في لحظة. ربما ينقض عليهم أولئك وينقلونهم إلى مكانٍ آخر في البلد. سيُسجن الرجال، وتُشرّد السيدات. هذا ما حصل للأُسر الصديقة. وفي الحُلم يُهزم الجمع ويوّلّون الدبر.

الأوراق. الجوازات والعقود والسندات والملكيات. على الأقل تكون معنا. تذهب لجناح الجدّ، لازالت الخزنة هناك. وتعرف أيضاً مفتاحها. لا وقت. بسرعة تتصفح الملفات. الجوازات أولاً. العقود ثانياً. لم تجدها كلها، ولكن وجدت ما يكفي. ليست متأكدة من أن السندات البنكية هي ما تريد، لكنها أخذتها أيضاً للاحتياط.

بيدها الممتلئة بالأوراق تعود إلى غرفتها. أين تخبئها؟ تضع الجوازات في خزانتها، جاهزة لتتناولها في أي وقت. ثم تقسّم الرزمة الباقية إلى نصفين. نصفها في حقيبة تسوّقها، والنصف الآخر تذهب به لحقيبة تسوّق زينب. إن أتوا أولئك، هذه الأوراق ستكون شغلهم الشاغل. جيّد أن الخزينة لازالت ممتلئة بالأوراق الأخرى.

ماذا عن الذهب؟ تسمع صوتاً داخلياً يتشكك. أجننتِ؟  أتظنين أن هناك داعٍ حقيقي لكل هذه الحماقات؟ ماذا سيقول أهل البيت؟ ماذا ستقول لك زينب؟

تجلس مرة أخرى على السرير. تحتاج للتفكير.

صحيح. ربما لا يحصل شيء. غالباً لن يحصل شيء. ولكن حدسها يتوسّل إليها أن تفعل كل ما يمكنها فعله لتستعد. أسرتها تعتمد عليها. حتى وإن لم يصدقها أحد منهم إن حاولت إخبارهم. تعلّمت من جدّها أن الملامة لا تقع على الغافل، بل على من دلّه قلبه فتجاهله.

الذهب. ماذا تفعل بالذهب؟ تفتح صندوقها. تختار أغلى القطع. لا لولو ولا ماس، ذهب خالص. تلك التي تعرف جيداً أنها إن اضطرت لبيعها ستعود عليها بسعر جيّد. تضع اختياراتها في حقيبة يدها. خمس قطع تكفي، تحاول أن تخزّنها بفوضوية وكأنما تراكمت بالصدفة ولم تُعدها إلى الدرج بعد ارتدائها، لا تريد أن تثير الريبة إن تعرضت الحقيبة للتفتيش.

تترك الغرفة ولا يزال التساؤل قائماً. هل استعدّت بما فيه الكفاية؟ لا يبدو ذلك. هل بالغت في الاستعداد؟ يبدو ذلك. تتمنى ذلك.

تعود للسطح. تقابلها نظرة زينب المتفحصة. تنتبه أنها عادت بلا كعب وبلا شال. ترتبك. وتتظاهر بأن لا شيء هناك. أم كلثوم تسأل، بهزيمة عاتبة، تروح لمين. تختفي هبّة الأدرينالين، وتترك في عينيها ألغازٌ، وفي النفس اكتئاب. ليس اكتئاب العاشقين.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s