موسكو ١٨٩٦: عن الحياة والدين

عندما كنت في الثانية والعشرين من عمري التقيت في مناسبة اجتماعية بأحد معارفنا، وأخذنا الحديث عن اتجاهاتنا في الحياة.

في الثانية والعشرين كنت أنا أول من يعترف أن لا اتجاه لدي. لتتركني الدنيا في حالي، أنهي الجامعة المزعجة، وأعيش أياماً- أو شهوراً- في سكينة بدون أي ضغوطات.

المهم أن الحديث راح للأدب والفن. وفي تحويرة ما لا أتذكرها، قلت بأن الدين ينظم هذه الحياة أو شيء كهذا. فنظر إلى محدثي، وكان رجلاً في الستينيات من العمر، بخيبة أمل وعدم تصديق. وقال: وهل الدين بأهمية الشعر والفن للإنسانية؟

أتذكر أنني نظرت إليه حائرة لوهلة. عشت حياة محمية للغاية- الحمدلله عليها- وأقصى ما يمكن أن تفعله واحدة من صديقاتي أو عائلتي أن تسبح برداء السباحة في الشاليهات أو أن يكون لها أصدقاء عدة من الجنس الآخر. هذه قمة ” التمرّد” التي أعرفها، والتي يمكن أن أقف مشدوهة أمامها في صغري. أما أن تشكك في أن الدين يمكن أن يساويه، بل ويتفوق على أهميته، شيء آخر؟

١- بم يمكن أن أجيبك؟

٢- هل ربما علي أن أفكر في شرعية سؤالك بطريقة محايدة؟

لم أرد عليه. وظللت لفترة طويلة أفكر في إجابتي الشخصية، أنا فاطمة، على السؤال. ليس جواب أبي الحاد. ولا جواب أمي المستنكف، ولا جواب خواتي ولا صديقاتي ولا معلماتي. أنا أنا.

الجزء الأول من الإجابة، الـ ” لا”.. هذه سهلة. أساساً لم أكن يوماً ممن يعيشون للفن والأدب. صحيح، تبهجني الأغنية، وأتحرّك بكلّي مع رواية جيّدة. لكن لا أعيش على هذه العوالم. فيبدو أن أقارن أشياء ” ترفيهية” بشيء أساسي كمصيرنا على هذه الأرض تصرفاً تافهاً لا يمكنني ابتلاعه. المشكلة كانت في الجزء الثاني من الإجابة. لم؟ لم كان الدين يتفوق على الفن والأدب؟ إجابة الآية الكريمة ” وما خلقت الجنّ والإنس إلا ليعبدون” كانت حاضرة لدي. ولكن من ناحية الشخص الذي يحدثني لا يعترف بمرجعية الأديان، يبدو ذلك، ومن ناحية ثانية، أنا نفسي لم أكن أستوعب الآية فعلاً. بل حضورها كان نتيجةً طبيعية للتربية الدينية التي تلقّيتها من الصغر.. دون أن يكون لدي مساحة لأن أختارها بنفسي.

لسنوات طويلة لم أته عن ديني ولله الحمد، ولكنه لم يكن المرجعية الوحيدة التي أرى فيها العالم، كما يختار والدي العزيز أن يفعل، وكما تربيت أن أفعل.

السنوات الأخيرة أجد نفسي وقد عدت، اختياراً تاماً، إلى يكون الإسلام هو مرجعيتي الأساسية، ونادراً ما أرغب في أن أحيد عن هذه المرجعية، كما كنت أفعل كثيراً في أوقات سابقة، لأجرب أن أضع نفسي في المرجعيات التي يعتمد عليها الطرف الآخر. مثلاً كنت عندما أتحدث مع مسيحي، أفهم رؤيته للأمور وأجدها منطقية لأني أحتكم إلى مرجعيته. بطّلت، في غالب الأمر، أن أُغيّب مرتكزاتي لأسمح بفهم الآخر.

ربما في الأمر ضيق أفق. وبالتأكيد لا يجوز أن أفعل ذلك إن كنت في مكان بأهمية التحاور مع الطرف الآخر أياً كان. لكني كفاطمة أميل الآن إلى أحادية رؤيتي، وسط التمييع الذي تتعرض له هويّتي الدينية من الآخر.

أتابع باهتمام محاضرات الشيخ حمزة يوسف. خطابه الديني يناسبني لأسباب ثلاثة. أولها كونه آتٍ من ثقافة مدنية تستخدم أدوات التفكير ذاتها التي أستخدمها في حياتي.

ثانيها تعوّده على إجابة أسئلة مصيرية تطرحها هذه الثقافة المدنية بشكل حاسم ومقنع. لازلت أتذكر جيداً كيف حسم لي التساؤل الذي تطرحه الأفلام مثلاً عن ” لم يفعل ذلك الرب”، تعالى الله عن السؤال. قال، عرضاً، بأن القاعدة هي ألا يُسئل ربّنا عما يفعل، وهم يُسئلون.

ثالثها كون الإنجليزية لغته الأولى، ففهمه للعربية منعش وطازج ويعيد طرح الأسئلة على معانٍ لطالما اعتبرناها منتهية لغوياً لتعوّدنا عليها. مثلاً العبارة الواردة في الحديث الشريف ” يُعزف على رؤوسهم بالمعازف” لطالما تعاملت معها على أنها في ذمّ الموسيقى، دون مراجعة لمعناها اللغوي. بينما يفسّرها الشيخ حمزة بحرفيتها، سمّاعات الرأس، سبحان الله. عندما تفكر بلغتك الأصلية، مهما بلغ ارتياحك للغتك الثانية، تترجم الكلمات حرفياً ولا تتعامل معها على أنها تشبيه لا يحتاج لتفسير.

هذا عن الشيخ حمزة يوسف بشكل عام. بشكل خاص، أهتم كثيراً بما يقوله عن أن الشعوب الغربية، أمريكا وأوروبا، هي شعوب متدينة حتى القرن العشرين. وأن التديّن أخذ المقعد الخلفي وتراجع بسبب أهوال الحربين العالمية الأولى والثانية. لم أجد له حتى الآن محاضرةً يُسهب فيها عن هذا الأمر، لكنني دائماً أشعر بوجل عندما أفكر كيف يمكن للإنسان التخلّي عن دينه. مركزه. والهدف الأساسي- نعم، مقتنعة تماماً ولله الحمد بما أقول- لوجوده. كيف يمكن أن يضيع أمانٌ غالٍ لهذه الدرجة من بين يديه. كيف يمكن لحضارة أن تُحرم من أن تجد شفاءها في رحاب الدين.

الثانية ٢٢- ٢٣

قبل أسابيع مر علي فيديو لشارع من شوارع موسكو في العام ١٨٩٦ بعد تلوينه. في واحدة من اللقطات، يعبر أحدهم الشارع، وقبل عبوره بثانية، يرسم علامة الصليب على صدره، والحافظ الله، كما يقول أحدنا قبل أن يعبر الشارع بسم الله الرحمن الرحيم.

توقفت مع هذه اللقطة كثيراً. بعدها بعشرين سنة، تقوم الثورة البلشفية على القيصر الروسي، ويتولى الشيوعيون الحُمر الحكم، وتتعرض الحياة الدينية الروسية للإقصاء الجبري، ثقافياً واجتماعياً وسياسياً. ونعرف الروس بالملاحدة.. وتضيع الإشارة الدينية تحت الأقدام.

إن عادت بي السنوات، ولا أريد لها أن تعود، لتلك المناسبة ولذلك الشخص، وطرح على السؤال نفسه: أتظنين أن الدين بأهمّية الفن والأدب للإنسانية؟ فسأرد عليه، وبأقصى نبرة شوارعية أستطيع أن أصل بصوتي إليها: ايش رايك؟

اللهم ثبّت قلوبنا على دينك.

فكرة واحدة بشأن "موسكو ١٨٩٦: عن الحياة والدين"

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s