عندي خال لمّا كنت في الثانوية كان يمرّ علينا أنا وأختي في المساء، الساعة الثامنة أو التاسعة مساءً. كنت أشعر بعدم ارتياح والدتي للخروجات اللاتقليدية هذه، لكن لم يكن لديها اعتراض واضح لتقوله.
نخرج من بيتنا للبحر مباشرة. في السيارة نستمع لأغاني الكنتري الأمريكية المفضّلة لدى الخال. نقف على الشاطئ لدقائق تطول أو تقصر حسب المزاج. لا نتحدث كثيراً. يمازحنا قليلاً ثم نصمت. نحن الثلاثة نرتاح مع الصمت، لا نمانعه. وإن كنت وقتها أصغر من أن أفهم أن السلام الذي يعم هذه الرحلات سببه انسجامنا، وأن الهدوء من السهل أن يتبدد لو أضيف إلى الطلعة شخص رابع لا يناسبه هذا النوع من الونس المتداري.
بعدها نختار أحد الكافيهات المنتشرة على الجهة المقابلة. نضحك قليلاً، ثم نعود للصمت الهادئ. نطلب وجبة خفيفة وعصيرات. قهوة للخال. ساعة أو أقل بقليل. ثم نعود للمنزل.
في تلك الأيام كنت أخرج كثيراً. ربما ليس كثيراً بمقاييس الآخرين، ولكن بالتأكيد كثيراً بمقاييسي اليوم. مع دائرة عزيزة من القريبات. مع بعض الصديقات اللاتي ترتاح والدتي لهن. مع بنات صديقة الوالدة العزيزة. مع ذلك تأتي ذكريات تلك الخروجات الصغيرة محمّلة بكثير من الألفة والراحة. على عكس ” المغامرات” التي تحفل بها بقية الطلعات، والتي لا يتحملها شخص محبّ للروتين مثلي رغم أنني أيضاً لم أكن أعرف أفرّق بين الاثنين وقتها.
لا أتذكر كيف توقّفت هذه الخروجات. لم تكن محددة بوقت ولا بوعد، دخلت الجامعة وانشغلت بقصص الجامعة وقصص العمر خارج الجامعة. وحملت الذكرى في مكان بعيد بقلبي. لم أكن أدرك أن هذا النوع من الذكريات سيصبح مثل بلوفر عزيز عليّ، أحتاجه أوقات الشتا وأرتديه من وقت لآخر كي يشعرني بالدفء. بتّ، بعد سنوات طويلة، أتذكر لطف الخال في هذه الخروجات بالتحديد. لأنه أهداني، أنا فاطمة، شيئاً غالياً لم يعرف الآخرون، وأوّلهم أنا، بأهميّته لديّ.
قبل أسابيع استعدت البلوفر. وجدته على مقاسي لم يتغيّر. ارتديته. فردت طرفه بأصابعي، وإذا بي أجد من ضمن ألوانه لوناً مدهشاً لم أنتبه إليه من قبل. بالصدفة البحتة عرفت أن السنة التي قضيناها مع الخال هي السنة التي سبقت طلاقه. وأنه- كما يبدو- اختار أن يلجأ لصحبتنا لأسباب لا أعرفها وإن كنت أستطيع تخمين بعضها. وفي عزّ أزمته، وكتأثير جانبي لها، منحني بعضاً من أطيب ذكريات حياتي.
من إدراكاتي الأخيرة أن عصرة الظروف، السنوات السبع العجاف، تترك تشوّهاتها في الروح. هناك أزمات تمرّ عليك وأنت ” صاحي”. تصبر عليها وأنت تصرّ على أسنانك تنتظر الفرج، ولمّا يأتي- لأنه ولله الحمد لابد أن يأتِ- تنفرج ابتسامتك وتتنفس الصعداء. جات سليمة.
لكن هناك أزمات أخرى تمرّ، لها علاقة بقصتك الشخصية واستعداداتك النفسية ومواطن قوتك وضعفك، تتركك مثل ورقة مشقوقة حادّة الحوافّ. تساءلت لفترة كيف يمكن أن أحمي روحي من التشوّه. كيف يمكن أن تنثني الورقة بدلاً من أن تتمزّع. وقضيت وقتاً لابأس به أحاول أن أجيب على هذا السؤال لأنني أحتاج بالفعل إجابته. ووجدت أن أفضل ما يمكنني فعله ثلاثة أمور.
- الذكر والارتباط بربّ العباد.
- أن أترك بوابات رقّة القلب مفتوحة. لا أسمح للجليد أن يتجذّر في القلب حمايةً لي. هي حماية مؤقتة ومُدّعية، لم أعد أودّ أن ألجأ لها.
- أن أتشبّث بحلاوة الدنيا الطيّبة. أن أسعى لتذوّق بهجتها وإن كان القلب محمّلاً بالهموم. دقّة موسيقية. قطعة كيك. ضحكة نقطة من نقاطي الصغيرة. نجوى مع حبيبة قلب.
ومع اللون الجديد في البلوفر عرفت أمراً رابعاً وإن كنت لست متأكدة من قدرتي على تحقيقه. أن يكون تعبيري عمّا أمر به، عن الأزمة نفسها، تعبير فيه إحسان سعيد لهذه الدنيا، ورقّة القلب التي أحياناً قد تفلق القلب، يمكن أن تتحوّل إلى فعل خارجي يبني ويرمّم ويترك الذكرى الطيبة. أي قوّة سحرية يمكن أن يمتلكها الشخص إن استطاع أن يفعل هذا؟ أي قوّة سحرية يمكنني أن أمتلكها إن هداني ربي لهذا؟
حينها لا تكتفي الروح بالنجاة من التشوّه. بل تزيد. تتّسع. تكبر وتتعملق في جمالها ورقتها. تتشجّر. وأنا أودّ لروحي أن تتشجّر. لا أعرف كيف ومتى وبم. لكني أودّ وأتوق وأنوي. ولعلّ الله يستجيب.
“ولعلّ الله يستجيب.” أمين يا فاطمة، أمين 🤍
إعجابLiked by 1 person
يارب. ويحقق لك الأماني وتطيب لك أيامك.
إعجابLiked by 1 person