شيشة بلا ليّ

قبل أسابيع تغيّرت علي قهوتي. تغيّر طفيف. لا أستسيغها بسببه، لكنه أصغر من أن يدفعني للبحث عن حلّ له. أكبّر دماغي وما أبحث أكثر في الأمر. هناك خلل ما في طريقة إعدادي لها. وين الخلل، في أي خطوة من سلسلة خطوات التحضير، ما أعرف.

أشربها على أساس أن عندي مهام ومسؤوليات ثانية حافلة أحتاج أركز عليها. وماعندي لا الوقت ولا الطاقة أو الوسع إني أحل مشكلة “مترفة” مثل هذه المشكلة اللامشكلة.

في يوم ما، وبدون أي جهد مني، عاد للقهوة قوامها. اتضح أن الخلل كان في مكون من المكونات، ولما انتهت العلبة وأتيت بعلبة جديدة، عادت الأمور لطبيعتها. في ذلك اليوم تحديداً- ولا علاقة للقهوة بالأمر- كنت أتعامل مع مزاج معكر وضغوط. ولم أصل لفقرة شرب قهوتي إلا وأنا غاسلة يدي من اليوم ومن أدائي فيه. شربت القهوة بقوامها. استهديت بالله. خلال ساعتين، وبتوفيق من الله، استطعت أن أتعامل مع الضغوط إياها وأعيد الأمور لنصابها.

شيشة. بلا ليّ. كما يقول المزمار الظريف.

الناس تستعين على حياتها، على أمور يومها، بوعي أو بلا وعي، بلحظات صغيرة تخلي اليوم قابل للاحتمال. أظن. أستعين على أمور يومي بنصف ساعة أو أقل أو أكثر. أشرب فيها قهوتي. أستمع فيها لشيء. أقرأ شيء. ثم أعود للإدارة.

لكن هذه اللحظة، لحظتي التي أستعين بها على أموريومي، أصابها عطب. هو عطب لا يبدو ذا بال. عادي يعني خير إن شاء الله. لكن المشكلة ليست في أن القهوة لم تعد جيدة. المشكلة أن اللحظة. المحرّك البخاري الذي يعطيك الصبر والسعة والإحساس بأن في اليوم أشياء أخرى غير أمور الحياة الضاغطة، أصابه العطب.

أشرب قهوتي اليوم وأستمع لمحمد ثروت، الذي لم أتوقف عن حبّه منذ طفولتي، ينادي: أيوا الله، أيوا الله، أيوا الله يا خال. دوبّنا من الصبر جبال، من الصبر جبال. وتستوقفني نداءاته، جداً. من بداية الفصاحة الاسكندرانية في ” أيّ”، ومروراً بتكرارها الشجيّ، وانتهاءً بمخاطبته للـ” الخال”.

هذه الساعات القليلة، كل يوم، هي فسحة الأمل التي تمكنني من التطلّع للغد. التفاتي لها بشكل جادّ، حمايتها من أن تفقد معانيها أو مساحتها، تسمح لي بعيش حياة طيّبة، وربما خلّاقة أيضاً.

أصل- هذه الأيام- وأيام قبلها كثير، أطرح على نفسي أسئلة عن الخلق والقيمة. وأفكر في الصيغة، الميديم، التي أود أن أضع فيها بعضاً من روحي.

حكيت لأختي قبل شهور عن افتتاني بمقطع لتامر عاشور يغني فيه أغانٍ لحّنها لمغنين آخرين. أغنية لأنغام، ولعمرو دياب، ولفضل شاكر وهكذا. لم أكن أتوقع أن تُعجب هي أيضاً بالمقطع، يميل ذوقها عن هذه الناحية، لكن كان الحديث من باب المشاركة، وشاهدته هي أيضاً من نفس الباب.

قالت، بعد أن عادت من مشاهدته، أنها لم تفرّق كثيراً بين الألحان، وكأنها أغنية طويلة ممتدة. وفكّرت للحظة الأولى أن معاها حق، طريقة تامر عاشور طاغية في الغناء.

اليوم أعود إليه وأفكر: ماذا لو كان إبداع الشخص، على اختلاف نواحيه، هو أغنية واحدة طويلة، لا تفرق بين أجزائها؟ ماذا لو أن إبداعنا هي الطريقة الموحّدة، جسد من الأعمال على قولة الأمريكان/ بودي أوف وورك/ متناغم متصالح متسق مع نفسه. ثم تذكّرت وصفاً عربياً لمؤلفات الكتب: مُصنّفات. طيب قلت خليني أشوف الكلمة وتفريعاتها في معجم المعاني.

صَنَّفَ الْمَوَادَّ: جَعَلَهَا أَصْنَافاً وَرَتَّبَهَا وَمَيَّزَ بَعْضَهَا عَنْ بَعْضٍ حَسَبَ عَلاَقَاتِهَا‏

صنف: نوعٌ، مجموعة من الأشياء أو المعاني تلتقي في ممَيِّزات خاصَّة ومشتركة

‏مُصنَّف: كتابٌ، مُؤلَّف‏

تَصانيف: (اسم) ‏جمع تَصْنِيفٌ

‏مُؤَلِّفٌ لَهُ تَصانِيفُ كَثِيرَةٌ: كُتُبٌ مُصَنَّفَةٌ، مَكْتُوبَةٌ

يصح جداً، جداً جداً، إذن أن أعتمد على كلمة (مُصنّفات) بهذا المعنى، نفس المعنى الإنجليزي الذي أجده في body of work، مجموعة من الأعمال التي تلتقي في مميزات خاصة ومشتركة- تامر عاشور مثلاً والطريقة اللي تمشي فيها الألحان في مخه- وأصحاب الأعمال الخلّاقة ممن ينتمون إلى هذه المرتبة المدهشة المذهلة: أن يكون العمل الإبداعي معبّراً عنك، عن أصلك وحقيقتك، عن بصمتك العقلية ودهاليزها وأسرارها. لا تشبه بصمة أحد.

هذه مرتبة أودّها وأودّ أهلها. اللهم بلّغنا.

3 رأي حول “شيشة بلا ليّ”

  1. مرحبا..
    قرأت المقال في أكثر وقت أحبه من يومي (الظهيرة) في آخر ساعة منها وهي الساعات التي (استعين فيها على أمور يومي) أمامي يقفز (بسميل) قط بلدي تركته والدته بفناء المنزل -مفروض أكتب بحوشنا عشانه بعالم البساس مصنف بِس شوارع- بسميل والذي لا أعرف جنسه هل هو ذكر أم أنثى هو تحدي الأيام القادمة بالنسبة لي؛ مرفوض رفض تام بالمنزل وينادونه (الأجرب) أما أنا فلا أجده إلا هزيل ضعيف لا حول له ولا قوة. لا يفضل طعام القطط -أصلو بس شوارع- لا بأس سنحاول الأمر يحتاج كم علبة تونة وكم وصلة دجاج ويصير دبدوب وسيفرض احترامه على الجميع. طيب هذا أول قط يدخل حياتي متشوقة أعرف جنسة. نحتاج مشوار سريع لعيادة بيطرية، فحوصات مبدئية ونوعه وربما فصيلته ومعرفة إن كان سيحتمل البقاء معي الأخيرة أعرف إن لا أحد في العيادة لديه الإجابة المناسبة. لماذا بسميل في هذه الأيام؟ لأنني لا أحب الصيف ولا أستطيع في عمل أي شيء وأحتاج للبقاء في المنزل أيام طويلة. أريده أن يكون صديقي ويحتمل البقاء معي. كنت سأخبرك عن الأيام الماضية مر بها الكثير من العطب الذي لم يكن مترفًا لكن صديقنا اللعوب أدار دفة الحديث نحوه.

    Liked by 2 people

    1. تدوّخيني نهيل. ويفتنّي جمالك. وفؤادك، ولا أزكيك على الله، كأفئدة الطير. عندي فوبيا حقيقية من القطط، لكني بصفّك وصفّ بسميل. عقبال مايصير دبّ ومتختخ قد كده هوّن. وتخرّ له الجبابر ساجدينا 😌

      إعجاب

اترك رداً على فاطمة إلغاء الرد