أستاذتي في الجامعة، الأمريكية ذات الغرّة السوداء الفاحمة وأساور الذهب، قالت بأنها تبتاع لابنها وعمره آنذاك ١١ عاماً، مجلّات المصارعة الحرّة. وبالرغم من معارضة زوجها المبدئية وردّة فعلها الفوريّة (امتعاض ونفور) من الصور والثقافة، إلا أنها تفعل ذلك في كل مرة لأنها تودّ أن تنمّي فعل القراءة لدى الولد: فعل التأمل والثنائية مع الكلمات. وإن لم يكن هناك سبيل لذلك سوى بالمصارعة الحرّة، فليكن إذن.
أعود إلى هذه القصة مراراً وتكراراً. وفي مواقف مختلفة ليس لها علاقة مباشرة بالقراءة. ولا أعرف إن كنت أتفق معها أم أختلف، نظرياً. عملياً؟ أتفق. نظرياً؟ لا أعرف.
في كتاب نيك هونبي عن تشارلز ديكنز وبرنس المغنّي البريطاني/ الأمريكي، يذكر حكاية عازف ومنتج موسيقي معروف (Questlove إن أردت اسمه- لم أسمع عنه قبلاً لأني لست من هواة الهيب هوب). يقول أنه في أواخر التسعينيات، وبينما كان مراهقاً يعيش تحت ظل أبوين مسيحيين صارمين، استطاع أن يأتي بكاسيت لموسيقي يحب أن يسمع له. وجدت والدته الكاسيت و” خرطته”. أتى الشتاء، وعمل لساعات طويلة في جرف الثلج عن مداخل بيوت الجيران كي يجمع النقود خلسة ويبتاع الكاسيت مرة أخرى. اكتشفته والدته أيضاً، ورمته في القمامة. وجد طريقة ما لشرائه مرة ثالثة لينال علقة محترمة من والده ويصادر منه الشريط. الرابعة استطاع اخفاءه عنهم جيداً، واحتفظ به.
يسأل الكتاب: هو دز ذات؟ مين اللي يعمل كذا؟ ثم يجيب: قلّة محظوظة.
قلّة محظوظة يستغرقهم الشغف. ليس الشغف الذي كرهنا عمرنا ونحن نسمع عنه في محاضرات الإنترنت. هو شغف آخر. أصلي. له علاقة بالمزاج. حب أفلاطوني ما يريد المصلحة. أعرفه جيداً. وغالباً- بما أنّك كمّلت لغاية هذا السطر- تعرفيه أنتِ أيضاً جيداً.
أتذكر وأنا صغيرة كنت تقريباً مهووسة بأن أعدّ كلمات الكتب التي أقرأها. أرقّم كل كلمة في صفحة من الصفحات، وأفترض، مثلاً، أن الصفحة الواحدة فيها ٩٠ كلمة. والكتاب من ٧٠ صفحة. الكتاب إذن فيه ٦٣٠٠ كلمة تقريباً. والمعلومة هذه كانت تسعدني جداً. أعود ليوم آخر وأختار صفحة عشوائية من نفس الكتاب. أعدّ كلماتها، أتأكد أن الافتراض بأن الصفحة الواحدة من الكتاب في حدود ٩٠ كلمة. أقل قليلاً. أكثر قليلاً. وهذا يعني أن استنتاجي أن الكتاب يحوي ٦٣٠٠-٦٥٠٠ كلمة هو استنتاج صحيح.
وإن كنتِ تظنين أن هذه إشارة لاشك فيها تنبئك عن مستقبلي في التعامل مع الكلمات، فأنتِ محقّة إلى درجة كبيرة. لكن هذا الافتراض نفسه- الذي كنت أعرضه على نفسي بما أن ليس هناك تفسير آخر لما أفعله- هذا الافتراض كان يصيبني بالإحباط لأنه، ببساطة، لم يكن يعبر عن حقيقة ما أشعر به.
كبرت وأخذت وقتي. وفهمت الآن أن ترقيمي للكلمات لم يكن يعبّر عن رغبة لأن أكتب أو أؤلف الكتب. كان يعبّر عن رغبة حارقة أكثر تخفّياً من ذلك: الحاجة إلى رؤية هياكل الأمور. الهياكل/ النظريات/ البنية التحتية للأفكار. وهذه الرغبة لاتزال تعيش معي. وجدت طريقها للرضى، ولله الحمد والمنّة، في عملي وفي هواياتي.
كتاب ديكنز وبرنس كان ولازال تسليّتي خلال الشهور الأخيرة. رغم أنه أقرب للمقال الطويل منه للكتاب. ورغم- لا مش رغم بل بسبب- أنه غريب الأطوار وشخصي للغاية. الكاتب نفسه يقول أن القواعد التي يضعها للتشابه بين تشارلز ديكنز وبرنس تأتي للتعبير عن مزاجه الخاص، وأنّك إن أردت أن تأتي بأفكار أكثر عقلانية من ذلك، كأن تشبّه ديكنز ببيكاسو، فعليك أن تكتب كتابك لا أن تتسلّط على كتب الآخرين.
في الكتاب نفسه، يتحدث الكاتب عن الورقة العلمية التي روّجها مالكولم جلادويل عن العشرة آلاف ساعة من التمرين كي تصل إلى الأداء الاستثنائي. طيب تشارلز ديكنز- يقول الكاتب- لم يكتب شيئاً قبل روايته الأولى في منتصف عشريناته. وين العشرة آلاف ساعة ممارسة؟ ثم يقلب على رأسي الطاولة ويقول: ماذا لو كانت عشرة آلاف ساعة من الاستغراق؟ من الاستهلاك؟ من ألا تفعل شيئاً سوى أن تستمتع فكرياً بالمادّة التي تفضّلها؟ ديكنز مثلاً قضى ثلاث سنوات من عمره، بين الخامسة والثامنة عشرة، في مشاهدة مسرحية واحدة ما استطاع إلى ذلك سبيلاً.
صح.
ربما هناك ثغرات منطقية في هذه الفكرة، لكنّا في هذه التدوينة سنستمتع ونسترخي حول فكرة الاستغراق دون أن نخرّبها بالتمحيص. بالإضافة إلى أنني، في حياتي الشخصية، أجد هذا النمط هو ما يأتي بالثمار. الاستغراق، ضبط التوق المشتعل في الصدر لأن تفعل شيئاً ما ليس بمقدورك أن تفعله بعد، ثم مفاجأة الصبر الجميل، بعد سنوات الأسئلة تأتيني سنوات الأجوبة.
وأحلام لما تسأل: وليش مستعجل، أحدٍ مع خلّه، ويناظر الساعة؟ نحاول ألا نستعجل، وأن يُفتح لنا باب الجمال دون أن ندكّه بقلّة الصبر.
يالله يا فاطمة يا الله! ✨✨✨✨✨
إعجابLiked by 1 person
شكراً ياهيفاء. وصلني تعليقك وسط نهار كئيب ولوّنه ♥️
إعجابLiked by 1 person