بعضُ سعادة. بعضُ سلوان.

فائدة أن تكون لديك بعض المخبوزات، من ليالٍ مضت، في الثلاجة.

الساعة التاسعة والنصف مساءً. نفسي تعوف الطعام رغم أنني لم آكل شيئاً يذكر خلال النهار المزدحم. قبلها بساعتين تركت الصالة التي ترتفع فيها أصوات الأحباب بالضحك وشربت نصف كأس من فيتامين سي. أتذكر في طفولتي أن فيتامين سي كان تجربةً فقاعية لذيذة. لم اختلف الأمر وصار عبئا أتجاوزه إلا فيما ندر؟

تهدأ الدنيا. تنتهي الليلة. يبدأ يوم آخر.

هذه الأيام أميل لفطور ناشف. عيش وبعض الجبن التشيدر. مع كوب من الشاي.

أتعامل مع الفطور، طيلة عمري، على أنها وجبتي الأساسية لليوم. أجدني هذه الأيام أعزف عن غناها، وأكتفي بما يعرفه أغلب الناس عنها. مش بعيد، والله أعلم، أن أجدني وقد استبدلت العيش والتشدر بالشابورة.

بالأمس استيقظت على دقة هادئة على بابي. قضيت ثوانٍ، ربما صارت دقيقة، أستجمع أفكاري. أنامل باردة تمتدّ لقلبي. ربما ما أخشاه حصل. ربما سأجد أهلي يترقرق في عيونهم الدمع، بينما يستعدون بالعباية والثوب للذهاب للبيت الكبير وتوديع آخر الخوات. لم يحصل.

أنا نفسي من سلسلة أخوات. أنا أصغرهنّ. تعلّمت مبكراً أن هناك ديناميكية مختلفة، لا تشبه بقية العلاقات العائلية، لوجود مجموعة من الفتيات في مكان واحد، بامتيازات واحدة، وتحت رعاية والدية ثابتة في أسلوب رعايتها للجميع. تعلّمت أيضاً، وكان هذا تعلّماً مدهشاً، أنه رغم كل التشابه الذي تتلقاه الفتيات، والتشابك الجدائلي بين حيواتهنّ وأيامهنّ، إلا أن النتيجة/ الإنسان الذي تكونه كل واحدة منهن/ يظهر بشكل مختلف تماماً عن الباقي.

أجلس على سريري. على امتداد النظر هناك مفرش طرّزته جدّتي حليمة ولم أعرف عنه سوى قبل أيام قليلة. رأيته ولفتني اللون الكتّاني الأزرق من ضمن مفروشات كانت والدتني تنقلها من دولاب لآخر. الخبر المؤسف الذي كنت أنتظره لم يأتِ. أستعيذ من قلقي وأفكاري العارمة بالذكر.


أستمع لأغنية جميلة تغنّيها سميرة سعيد في منتصف الثمانينيات. وأنا لم أسمعها سوى قبل أسابيع. اسمها ” سيبني أحبك“.

ألتفت لسميرة سعيد هذه السنوات بعد غياب موسيقاها عن حياتي تماماً. التفتّ إليها عامدة عندما سمعت أن صانع الموسيقى المفضّل لدي، محمود العسيلي، تعاون معها في أغنية. نوع هذا التقاطع غير المتوقّع من الأشياء المفضّلة لي. التعاون الذي عندما تسمع به لأول مرة تقول ” ايش جاب لجاب”. ديور لمنال الضويان، عبدالحليم في جلسة الكويت، فيصل الراشد وشو بدّه هذا، وشِل سلفرستين عندما يكتب للأطفال.

المهم أنني ” اشتريت”. اشتريت هذا التعاون من قبل أن أرى نتيجته وأخضعها لمعايير ذوقي وسمعي. هل سأحبها؟ نعم سأحبها غصباً عني. والمفاجأة أنني أحببتها بدون جهد كبير. الأغنية. فيها الفوضوية التي لا تخضع للأنساق المعتادة. تخليك تشتغل عشان تجد نسقها، وتتمسّك به كجائزة على عملك الصعب في إيجاده. طبعاً يتطلّب الأمر، في الأساس، أن تكون ممن لا يمانع فوضوية العسيلي ولامبالاته بسلاسة الكلمات.

بعد ذلك صرت أستكشف أعمالها شوي شوي. أفكر أن أذواقنا- أذواقنا الأصلية وميولنا الجمالية الطبيعية- تشبّعت بكثرة المعروض عليها من إبداعات. في طفولتي كنت أتلهف على لمحات الجمال ولا أجدها بما يكفي. الآن الجمال يحيط بنا في كل مكان. تغذية بصرية/ سمعية/ خيالية حتى التخمة. ولأنك يا إنسان، إنسان، بتّ تبحث عما لا يروق لك لأنه الآن صار يروق لك. تشبّعت، يعني، مما تفضّله، وبتّ تشتهي شيئاً مغايراً.


أدرك أن الدنيا متغيّرة. تستطيعين موافقتي على هذه الفكرة، لم آتِ بجديد هنا. لكن الموافقة على الفكرة لا تعني إدراكها. وإدراكها لا يعني الإلمام بكافة معطياتها. الدنيا- ياااه- متغيرة.

أحاول ألّا أقف وحيدة أمام هذا الإدراك. أو عزلاء. أو بلا حيلة.

حيلتي أمامه- قدر ما أستطيع- هو الامتنان لكل ما كان وكل ما سيكون. خسرت شيء؟ أمتنّ لأنه كان بين يدي قبل خسارته. خشيتِ من خسارة شيء؟ أمتنّ لأنه الآن بين يدي.

ألجأ إلى الحمد. ألجأ إلى الذكر. وعزائي عندما يتمرد قلبي علي في كلمات قرأتها بالصدفة للشيخ بن عثيمين رحمه الله، وهو من مدرسة محافظة في رؤيتها للعبادات والأصول، عندما يقول أن أجر الذكر يحصل بحركة اللسان. يعني حتى ولو لم يخشع قلبي. حتى ولو امتلأ عقلي بالقلق والصور والأفكار الرائحة والذاهبة، مادام لساني يتحرّك بذكر الله، تحصل الفائدة. ألجأ إلى الحصن المتين بالصلاة على سيدنا النبي.

وعندما يمتلئ قلبي بالقلق إلى نصفه، أحاول أن أدخل عليه بعض سعادة. بعض سلوان. وأسخّن بعض المخبوزات، من ليالٍ مضت، من الثلاجة.

5 رأي حول “بعضُ سعادة. بعضُ سلوان.”

  1. أزور مدونتك بشوق وأعود منها بدفء وسكينة، من الأماكن التي يسعدني وجودها في دنياي، متكأ هادئ وحديث “يؤتدم به” ويسيغ الكثير مما يعلق في الحنجرة.

    Liked by 1 person

    1. ممتنة وشاكرة وسعيدة بكلامك، ” الله يجبر خاطرك”. ولغتك حلوة وذكية ووقعها على سمعي حلو حلو حلو. أنت من النورات اللي أعرفهم؟

      إعجاب

      1. من النورات اللاتي تقاطعن معك في تويتر مدة قصيرة قبل إلغاء حسابي، على أن غرامي بحرفك قديم.

        إعجاب

أضف تعليق