في شتاء ما، وقبل سنوات كثيرة، تركت أناساً كان يمكن أن تكون حياتي مختلفة تماماً اليوم لو لم أفعل.
قلت مع السلامة. وفي نفس اليوم كان عندي ارتباط في قاعة مؤتمرات على البحر. وغصّتي آخر همّها البحر.
مر عليّ قريبي بسيارة ڤنتج فاخرة من جاراج والده المهتم بالسيارات القديمة. في تلك الأيام لم يكن تصنيفها السيارة الڤنتج، كان اسمها ” البنز القديمة”. وقتها كان من الطبيعي للغاية أن يسوق بي السيارة بدون أن أشاركه المقعد الأمامي. أتساءل اليوم كيف كنت أفكر وهل لو عادت بي الأيام اليوم سأجلس في الكرسي الخلفي أيضاً.
أحب سلامة النيّة التي كان أهالينا يتعاملون بها، وفي نفس الوقت الترتيبة الاجتماعية التي تساعد على سلامة النية. ربما سيقرأ البعض هذه العبارات بحواجب مرتفعة، لكن هذا ما حصل. التفت إلي وسألني إن كنت أحب أسمع “شي”. قلت له يللا. فارتفع صوت حكيم بـ”الصياح”.
ماذا سأفعل لو لم يكن حكيم، صوتاً وموسيقى واختيارات وفكرة، في حياتي؟
قبل شهور ربما سألتْ زينب على تويتر عما إن كنت تصنّف نفسك صعب التفضيل سهل الترك، أم سهل التفضيل صعب التخلّي، ووجدت الخيارين غريبين علي. أنا صعبة التفضيل صعبة التخلّي. ليس لأن ذوقي رفيع. نحن لا نتحدث هنا عن أم كلثوم، وإن كانت فوق كل تفضيل، ولكن عن حكيم. وعن العسيلي. وعن أشياء أخرى أرتاح وأنا أسمّيها ” تجارية”، لأنها تميل إلى مخاطبة الذوق العام بأكمله، ولا تقوم لها قومة بدون جدواها التجارية. بدون أن يطلبها الجمهور في حفلات الزفاف وبدون أن تقرأها على الكنبة بعد يوم طويل من العمل أو الدراسة. هذه الأيام أعود لقراءة روايات نورا روبرتس، وأجد فيها تشافٍ من نوع لا أجده في أي مكان آخر. رواياتها- بالتأكيد- ليست أدباً رفيعاً، لكنها تفعل فيّ وفي دنياي وحياتي مالا يستطيع فعله الأدب الرفيع.
أقول لأختي أن هناك تصنيف عام يسهّل علي فهم الأمور. أن في الدنيا أشياء هي ” كثير” يُعطى لـ ” قليل”، وأعني بها الأشياء النخبوية التي تقدّم عطاءً جوهرياً للبعض، ولكنها ليست قريبة من الكل. وهناك أشياء هي ” قليل” تُعطى لـ” كثير”. الأشياء الجماهيرية التي يتذوقها الكل، لكنها لا تحمل معنىً عميقاً لهذا الكل.
ثم هناك التصنيف الذي لا أعرف إن كان من الحكمة الطموح إليه. أعتقد أنه توفيقٌ إلهي محض- وكل الأشياء توفيقٌ إلهي- ولكن هذا ليس بهدف معقول تتناسب معه فكرة السعي. أن يكون الشيء كثير لكثير. كأن تكون أم كلثوم، أو عبدالحليم، أو نجيب محفوظ، أو غازي القصيبي.
هذه الأيام أقرأ أيضاً عن المعماري والمصمم الأمريكي مايكل جريفز، في بداية خمسينياته قرر الرجل- ووقتها كان معماري معروف- أن يخصص نصف وقته لاتجاه جديد: تصميم المنتجات. في ١٩٨٥ صمم كافتيرة الشاي- لا أعرف ما اسمها الصحيح- ربما هي غلّاية الماء؟ للسوق الأمريكية. بمجرد صدورها اكتسحت السوق رغم سعرها الذي كان أعلى من أسعار المنتجات المشابهة.
بلغة التصميم، الرجل استطاع أن يجمع لغات بصريّة عدّة في لغة واحدة متماسكة ويمكن التعرّف عليها فوراً. الديك الذي يصيح آتٍ من البوب كلتشر الأمريكية، بينما النقاط المنتفخة داير مايدور حول قاعدة الكافتيرة تعود للأنماط القبليّة عند السكان الأصليين في القارة الأمريكية. لكنك عندما ترى الغلّاية لأول مرة لا تفكّر لا في هذا ولا في ذاك، تفكر: كم هو منتج جميل، مثير للاهتمام، ” كتكوت” وأنيق. وأنك تريد شراءه إن كان سعره بمتناول اليدّ أو أبعد قليلاً حتى.

وبناءً على هذا المنتج الواحد (صممه جريفز في أربعة شهور مع الدراسة التقنية الخاصة به ونموذج جاهز قبل أن يذهب به إلى المصنع)، بناءً على اللغة البصرية في هذا المنتج ظهرت منتجات عدة انضمت إلى العائلة. ملعقة. سكّرية. ساعة حائط، ملّاحة، صينية… وكلها، بمجرد أن تنظر إليها، تتعرف على مفردات جديدة ومثيرة ومسلّية في نفس اللغة البصرية. المنتج لايزال- بعد ٣٨ سنة من صدوره لأول مرة– في الأسواق.
هذا منتج كثير لكثير.
أترك هذا التصنيف- واحتمالية وجوده في أعمالي- لمقدّرات الله وألطافه. وأدرك أنني حتى الآن- وبتوفيق من الله وفضل، كنت كثيراً لقليل. ولكن الأقرب لقلبي فيما أتناوله في حياتي هو ذلك القليل لكثير. ربما يكون قليلاً للأغلبية، لكنه كثير في حياتي.
عندما ارتفع صوت حكيم بالصياح، في ذلك الشتاء البعيد وأنا في المقعد الخلفي أمر على البحر- شعرت ببهجة تتصاعد في جذعي لقفصي الصدري لحلقي وأرى بلّوناتها الملونة أمام عيني. وتدخّل عقلي باتزان ليقول لي: يبدو أن الحياة لازالت جميلة، وأن في قلبك متسع لازال. وأن الفراق صعب، لكنه مقدور عليه، طالما وأنت في عمق حزنه، لا تستطيع روحك إلا الاستجابة لبهجة حكيم.
استدرت بكلّي- أتذكر جيداً- لنافذة السيارة. شاهدت بحر جدة العزيز يرافقني المسيرة. فتحت شراع حياتي لما يمكن أن يأتِ بعد. وقد كان.
سيذكر التاريخ ذكرياتك يا فاطمة؛ دليلًا على تمازج الثقافات
إعجابإعجاب