هكذا أصرخ

قبل عدة سنوات كنت أستعد لزيارة الخميس. عندي تنّورة زرقاء مفضّلة بنقوشات سوداء كبيرة يختلط معها الرمادي ربما، لم أعد أذكر بالضبط. لونها الأزرق كان مما يعطيك- إن رافقته مع الأبيض- إحساس الصباحات المتنشيّة. مرتب. نظيف. مقرطس. أشياء من هذا النوع. وكنت دائماً دائماً أرتديها مع تيشرتات بيضاء.

وقفت أمام دولابي تلك الظهيرة أبحث عن أكثر ملابسي معاكسة لبعضها البعض عن سبق إصرار وترصّد. ووجدت في التنورة المشجّرة وبلوزة سوداوية منقّطة بفراشات صغيرة تحقيقاً لهذا الهدف.

عادتي أن أنتظر نقاطي الصغيرة عند مدخل الدرج من أعلى. فأطلّ عليهم وهم يتجهون صعودا إلي. ظهر الصغار، ومنهم ذلك الصبي الوقور الذي يزن كلماته بالقيراط. رحبت وهلّيت، ولكن لما وقعت عيناي على حبيبي الصغير فارع الطول، نظر إلي نظرة محتارة فيها بعض القلق، وقال..: ” ليش؟”

لسبب ما لم أتفاجئ. وكأننا نكمل حديثاً بدأناه قبل سؤاله هذا. قلت: كِذا. وابتسمت. فابتسم. وأكمل طريقه.

أتذكر هذه ” الحادثة” التي لم أعتد حكايتها في الشهر مرة على الأقل رغم مرور سنوات كثير ة عليها. فهم الصغير الذي لم يكن يتجاوز الثانية عشرة أن هناك أمراً داخليا دفعني لهذا الاختيار. لخلط الباترنز/ أنماط القماش الذي أرتديه/ خلطاً مزعجاً، راغباً في أن يوقظ صفو البحيرة، أو يعكّرها. “ليش؟” كانت تعني: هل أنت منزعجة لهذا الحد؟ هل أستطيع أن أساعد بأي شيء؟ ما الذي فعله العالم ليدفعك للـ ” صراخ” بما ترتدين؟

وأنا كنت منزعجة لهذا الحد. ولم يكن يستطيع أن يساعدني أحد- أو هكذا ظننت. وأردت أيضا أن أصرخ بأعلى حسّي، بدون أن يسمع صراخي أحد. أردته أن يكون سراً. وسمعني الصبي. وغالباً داواني الصبي.

اليوم كان عندي مشوار صباحي صغير، وسأظل بالعباية. وقفت أمام دولابي ووجدت نفسي أختار بنطالاً أفكر الآن أنني ربما ابتعته لهذا الهدف بالذات. لأنه ليس بذوقي، وفي الأيام العادية أجده أكثر مما أستطيع تحمّله. ثم بحثت عن أكثر ما يعاكسه في دولابي، فاخترت بلوزة بيج بنقوش سوداء أيضاً جاءتني هديّة وهي إن لم تكن ذوقي بالضبط لكنها مريحة للغاية.


لم أختر ما أرتديه اليوم لأنني أريد الصراخ ولا أريد أن يسمعني أحد. الحمدلله. أظن أنني أرتديه ليعبر عن حالة من الصخب العقلي التي أمر بها، ربما أريد أن أقول لا بأس بالفوضى. الفوضى يمكن أن تتواجد في هذا العالم معك دون أن تحتاج لـ لمّ وترتيب وتعفيش سريع للتخلص منها. خلّي الفوضى تأخذ مكانها. خلينا نتعايش منها. نتعامل واحدة واحدة مع ما يمكننا ترتيبه منها. نعطي هذا العالم ما يمكننا اليوم. ثم نعطيه ما يمكننا بكرة. ثم بعده. وبعده. وبعده.

لا بأس إن كان مانعطيه خافتاً. أو ضئيلاً. أو مش قادر ومقتدر. لا تضغط أكثر لا يروح كله.

التنورة مع بلوزتها ذهبت بعد ذلك اليوم لبيت آخر، انتهت أيامها معي. لكني لازلت أتذكرها وأتذكر كيف أعانتني على تخطّي أيام صعبة. لن أتخلص من البنطال القبيح قريباً على ما يبدو. الفكرة تثير ضحكي. وماعندي سبب/ أو حكمة محترمة/ من كتابة هذه التدوينة التي لا أعرف عدد كلماتها بعد لكنها بالتأكيد جاوزت المئتين (عددتها، جاوزت ال٥٠٠). آمل ألا تكوني قد شعرتِ بالغيظ إن استمررت في قراءتها لهذه النقطة.. أو ربما لا؟ ربما أننا كسيدات نفهم ضرورية/ وترف/ لغة الثياب التي تتجاوز جمالياتها لأعمق من ذلك بكثير؟

أكتب التدوينة في المساء. لازلت بثياب النهار لم أغيّرها، وبيني وبينك، أشعر بأنني أسمع ضجيجها في أذني. مضحك، وربما غريب؟ لكنه حقيقي!

رأيان حول “هكذا أصرخ”

أضف تعليق