هذه التدوينة تتعامل مع موضوع الفقد. أحاول فيها أن أتلمّس طريقي مع ما يمثله انفعالاً وفكرة. آمل أنها تقدّم أيضاً مساعدة ما لمن يهتمّ، لكنّك معذورة إن أردتِ تجنّب قراءتها، ولم تكوني مستعدّة لمواجهة موضوع صعب مثل هذا. طيّب جداً أن تتوقفي هنا ولا تكملي القراءة.
فقدناها.
قبل أيام قليلة سمعت الدقة الهادئة على بابي في صباح مبكّر. عرفت أن أمراً ما قد حصل. لم أكن أرتدي نظارتي ولم أبدأ يومي بعد وإن كنت قد استيقظت قبلها بمدّة. سألتني من وراء الباب: نائمة؟ قلت لها وأنا أمسح الأسطح بعيني مسرعة كي أتذكر أين وضعت نظارتي: لا. ثم استسلمت وذهبت لأفتح الباب.
دخلتْ. وقفت قريباً من الباب. توقفت قريباً منها بما يكفي لأرى ملامح وجهها. لم تكن متغيّرة. لكني فهمت.
سألتها: مين؟ ارتجفت شفتاها. قالت اسمها. وهطلت دموعها.
فقدناها. وهي أعزّ الناس على أهلها. على أختها. على أخوانها. على خالاتها وخوالها وعمّاتها وأعمامها وبنات الخالات والخوال وبنات العمّات والأعمام. لازلت غير مستوعبة ما حدث.
تقول والدتي أن هناك مَلكٌ ينزع، ينزع الروح، وملكٌ يرزع، يرزع الأهل للأرض بالتثبيت. أدعو لأهلها، حبايب قلبي، بالثبات. وأعرف ولله الحمد أن اللقاء محتوم ومكفول. لكن القلب يحزن.
في نفس ذلك اليوم، وقبل أن يصلني الخبر، فتحت عيني على رسالة من الصديقة العزيزة، مقطع للشيخ الكملي لم أسمعه لكنّي فهمت أنها توصيني بذكر ما، فألهمني ربي أن أقوم من على سريري رغم الساعة المبكّرة، أجلس على الكنبة، أسبّح كما وُصّيت. بعدها سمعت الدّقات.
تقول لي أختي الكبرى أن شيخها أوصى بالاسترشاد بالآية الكريمة من سورة العنكبوت ” اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ ۖ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ ۗ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ”. تقول أن الذكر يهديك لما تحب من العمل الصالح ويربط على قلبك. أما الشيخ حمزة يوسف فيقول أن الذكر هو تذكير للروح عما تعلمه عن عبادتها لله ونسيته، فهي معرفة عميقة تعرفها أرواحنا قبل أن تتكون أجسادنا، ولهذا كان اسمه الذكر. من التذكّر.
ألتزم، قدر ما أستطيع، بهذه الوصية. قلبي يفلت من بين أضلعي أحياناً كحصانٍ شارد، أعيده إلي وأنا أحوقل.
قبل سنوات دخلت أعزّ صديقات والدتي في رشدها وطفولتها المستشفى. لمّا ذهبت لزيارتها فهمت أنها ستفارقنا عمّا قريب. عدت لمنزلي وأنا أحمل الهم على كتفي. ما العمل؟ ما العمل ياربي؟ كيف أحمي والدتي من هذا الحزن القادم؟
مافعلته أنني تشبّثت بالأمل. ألا يحدث ما أخاف منه. لأن: ماعندي خطة. كيف الواحد يتعامل مع الموت؟ ليس هناك خطط. هناك فقط الهوّة. هوّة الحزن الأسود.
بعدها بأيام قليلة سمعت صيحة صغيرة مكتومة. كنت في مكتب بعيد عن مركز البيت. مع ذلك سمعتها. تركت ما بيدي وصعدت الدرج. لما وصلت لمقدمته وجدت والدتي تعبر الصالة المفتوحة في طريقها لغرفتها وهي تبكي بحرقة. احتضنتها وهي تقول ” يا الله يا الله يا الله”. وحضنتني وتشبّثت فيّ. بعدها تركتني لأن الواجب يحتّم عليها الاستعداد للعزاء. وأولها أن ترتدي الأسود.
وقفت في الصالة أشاهد باب الغرفة وهو يغلق. ما عندي خطة. ما عندي فكرة. ولا عندي أي شيء عدا هذا الوجوم. والقبضة التي تمدّ يدها لروحي. ثم وجدت والدي يقدم علي، وجهه أحمر وعيونه تسيل بالدمع. لكنه كان يضحك لي ملء فيّه.
لثوانٍ لم أستطع استيعاب ما يقوله. ولِمَ يبتسم هذه الابتسامة العريضة. الابتسامة المتفائلة المستبشرة السعيدة.
قال: عائلتك كلها عندهم فرح الليلة في الجنة. عمّتك فلانة، وأبوها وأمها وجدّها وجدتها. عددهم بأسمائهم الثلاثية. وعمك فلان وفلان وجدّتك فلانة وجدّتك حليمة وأبوي (جدّي). فرحانين. الكل يرقص فرحان بالضيفة العزيزة اللي أخيراً جاتهم بعد طول انتظار. تركوها لهم سنوات واللقيا الآن جاء وقتها.
ويااااااه. أتاري الحكاية كذا؟
أيمكن أن يكون الموت فرحاً؟ أيمكن أن يكون لقاءً بين الأحباب، أُنس ومعزّة وأنوار مهرجانية تملى المكان؟ موسيقى وضحك وكل الهنا والرضا؟
أتاريهم مجتمعين، الأهل والخلّان، يستنونا ويتخبّروا عننا؟
طيب نزعل على ايه؟
يوجع، بعض الشيء، أننا لن نراهم. لكن نتذكر أن هذه الدنيا رفّة جفن، وأن إحساسنا بالسنوات الطويلة ليس دقيقاً ولا حقيقياً حتى. وهذه اللحظة، هذه الرفّة، تذهب في ثانية. لأننا مسلمين، موحّدين، موعودين ولله الحمد نسأله الثبات والرشد، بالجنة ولقاء الأحباب. وذلك اللقاء، وإن تأخر بعض الشيء، ليس فيه سوى الهناء والسعادة والعمر الطويل الطيب بدون أحزان.
ولو أن من فقدنا أتتنا قبل الفقد، وقالت أنها ستسافر للاستجمام في مصحّ ما، وأنها ستنتظرنا في الصيف نلحقها، هل سيمضّ الحزن أحشاءنا؟
أبداً.
سنقول لها: يوووه. بتوحشينا. ويمكن قلوبنا توجف حتّة. حتّة صغيرة جداً. ثم نستعيذ بالله وبنصلي على النبي.
هذا ما حصل للحبيبة، لكن أحسن منه بما لا يُقاس ولا يُعدّ، ولا خطر على قلب بشر.
والحبيبة الغالية ستذهب وترى أحبابها. حبيبتنا الشابة التي فقدناها ستقابل الجدّات والأجداد. ستتعرف على حبابات سمعت عنهم لكن لم تلتق بهم. هناك حبابة، مثلاً، سمعنا عنها طول عمرنا. ذات عنفوان ومحبّة غامرة. ولفّتها للشرشف (مرادف العباية) أسطورية. ستقابلها هناك. ويشربوا الشاي والقهوة ويتبادلوا الأحاديث والأخبار. كل الحبايب والخلّان في الجهة المقابلة.
وفي غمرة كل هذا الحبّ والودّ والحنان، والاحتفالات والأفراح والمهرجانات، ستبتسم وتقول: ياريت أنهم معي، لكن مثلما عشت ماربنا قدره لي على هذا الأرض، فرحت وحزنت وتعلمت وانجرحت، وربنا سدد الخطى في الصلاة والصيام والبرّ، أحب لهم أن يكملوا حياتهم التي قدّرها لهم الله. ووقتهم ووقتنا بيجي.
” فوربّ السماء والأرض إنه لحقٌ مثل ما أنّكم تنطقون”. أترين الحلفان الشديد؟ هذه حقيقة ليس هناك حقيقة أكثر ” جدّية” منها، وربنا أكرمنا بمعرفتها. يذهب كل شيء، ويبقى الوعد الوعد إننا- بكرم ربنا ولطفه- نحيا في كنف الرحمن.
فلنحتفل بحياة الحبيبة. قلبها أبيض وابتسامتها سكّرة. جميلة جداً، جداً. أحياناً أطلّ عليها ويفاجئني جمالها كأني أشوفه لأول مرة. وأفكر: ياترى عارفة قد ايش هي جميلة؟
صاحبة نكتة. يبدو الوصف وصفاً قديماً وكأنه فرّ من كتاب للرافعي. خلينا نقول دمّها خفيف. ونكتتها أحياناً لاذعة، لكني لا أتذكر أبداً أنها آذت آحداهن. القوة اللاذعة التي لا تسمح بالتعدّي، وهي نفسها كذلك لا تتعدى.
أشياء كثيرة. شبه أسرار. يقولون أننا نتشابه في تحفّظنا. أعرف أن دوافعنا لهذا التحفّظ مختلفة، لكن نعم، نشترك فيه.
آه. هي أيضاً كانت طفلة ذات جاذبية هائلة. ما أتذكر- ماشاء الله- طفلة مرت علي، وأنا بيني وبينها تسع سنوات، يحبها الصغير قبل الكبير مثلها. وهي عزيزة جداً على أجدادها. يقول قريبي أنه رأى جدّي في المنام قبل ذهابها إليهم بأيام قليلة وهو يضحك. منطقي. فرحان بوعد الزيارة القريب.
مرّت بأيام صعبة. تشبه أياماً صعبة قد مررت بها. لكننا لا نتحدث عن هذا الأمر. مفيد أن نذكره في سياق أنها تشهّدت وصلّت على النبي، وآن لها أن ترتاح وأن تزيح الأعباء الكبيرة والصغيرة عن كتفيها.
حبيبتنا ما ماتت. حبيبتنا عاشت.
ونحن قد فرحنا بها وبصحبتها في دنيانا. وآن لأهلها في الجانب المقابل الفرح بصحبتها في دنياهم. ونحن سنكمل الحياة، سنضحك ونفرح ونستقبل أيامنا بأنس أن من نحبّ موجودين، يفصل بيننا وبينهم فاصل رقيق، لا بأس. كلها كم “ثانية” ونتلمّ.
الحمدلله على ما آتنا. الحمدلله على ما وعدنا. الحمدلله على نعمه وتثبيته، وغفر الله لمن نحب وثبّتهم عند السؤال، وغسلهم بالماء والثلج والبرد، وجمع شملهم مع الأحبة، في رفقة الرسول وصحبه بالجنّة.
– عنوان التدوينة من مطلع قصيدة المتنبي ذات الشجون في رثاء أخت سيف الدولة الحمداني.
الله يرحمها و يصبركم
إعجابLiked by 1 person
آمين يا كريم. الله يجزاك خير ويحفظ لك أحبابك.
إعجابإعجاب
عظّم الله أجركم يا حبيبة، رحمها الله وأكرم نزلها ورفع درجاتها في مستقر رحمته، وجبركم وآنسكم بعدها، وجمعكم بها في أعلى جنانه مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً.
إعجابLiked by 1 person
الله يجزيك خير ويكرمك، ويجبر خاطرك ويخلي لك حبايبك.
إعجابإعجاب
الله يرحمها و يصبركم ويكتب اجركم ويسكنها فسيح جناته ،،،
إعجابLiked by 1 person