ربما الشوق لأشياء مستحيلة هو الشوق لأشياء ليست مستحيلة.
يمكنني أن أفصّل حياتي المهنيّة إلى ثلاث مراحل. ويتبقّى مرحلة رابعة لم أسمّها بعد.
سنوات الوظيفة. سنوات التحرر من الوظيفة. وسنوات التحرر من التحرر من الوظيفة.
عندما تقاوم الحواجز الفكرية، تبني بمقاومتك هذه حواجزاً فكريةً أخرى بدون وعيك. أو بوعيك. لكن لأنها لا تشبه أياً مما كان سابقاً، تتوه عن حقيقة أنها- كما ما سبق- مجرد جدران أخرى. عندما تعادي السلطة الأبوية، مثلاً، أنت لا تفلت من السلطة الأبوية، أنت فقط تعلن عداءك لها. تبقى، بحياتك وأفكارك، تحت مظلّتها.
عندما تثور على فكرة، تتشبّث بفكرة أخرى. ولأنك مشغول جداً بنقضها، الفكرة الأولى، لا تمحّص كثيرا الفكرة الثانية وهي تتجذّر فيك. تنمو عليك. تخنقك بالتفافها على جسدك. تترك فكرة ” مش أحسن شي” ويبقى معك فكرة أخرى، مناقضة، لكنها أيضاً ” مش أحسن شي”. أبسط مثال، عندما تتمرد على فكرة دوام الـ٨ ساعات، تسمح لنفسك بأن تعيد تعريف نفسك على أنك الشخص الذي يرفض الثمان ساعات. لازالت الثمان ساعات في حياتك، كل ما في الأمر أنك على الجهة المقابلة من قبولها.
قبل عدة سنوات شعرت أنني لا أريد الاكتفاء بأفكار مش أحسن شيء. أريد القماش الغالي. أريد القماش بالوزن الخفيف الصيفي. عندما أضعه على جسدي أشعر بالربيع. أشعر بأنني أستطيع أن أطير.
ماسعيت للخفّة بقدر ماكنت أسعى للتعامل مع الثقل. مع الحمول التي حمّلتها لي حياتي، وحمّلتها لنفسي في حياتي. وقفت. تركت المقاومة تسقط عني. وتركت القبول كذلك. لم أشغل يداي بأي شيء. أو ربما هذا ما أتذكره عن تلك الفترة. لو سألت نفسي وقتها عما أمر به فسيكون ردّي سلسلة من الشتائم المهذّبة. لا أحب الشتائم من النوع الآخر.
في آخر ٢٠٢١ كلمتني صديقة عن فرصة عمل مختلفة تماماً عن المشاريع التي كنت أعمل بها. بل عن جوهر ما أراه لنفسي. لكني كنت وقتها أتوق للتجربة. ليس بتغيير التحديات العقلية، ولكن للإفلات من أفكاري المسبقة عن نفسي. من شجر اللبلاب الملتف حول جبهتي ويكاد يحجب بصري عن البساتين الواسعة التي أود أن أراها في أفقي. هناك أسباب أخرى أيضاً دفعتني للقبول. أسباب عملية وشخصية. كنت أود، مثلاً، أن أجرب نوعاً من العمل لم أجربه من قبل. كنت أيضاً مرحبة جداً بالعمل مع الصديقة التي عملت معها قبل ذلك في مشاريع سابقة وكانت تجارب طيبة ومريحة ولذيذة.
التجربة التي استمرت سنوات علمتني الكثير. هي تجربة مهنية صحيح، لكن لطالما كانت الحياة المهنية- ربما لنا نحن كسيدات أكثر- مساحة متداخلة وأساسية في النمو الشخصي والإنساني. كنت في أحيان أضع نفسي في صندوق صغير لا يتسع سوى لمهاراتي الحرفية. لا يتسع لكبريائي وأفكاري المجرّدة التي أحملها معي لكل مكان، لا يتسع لقائمة تفضيلاتي الشخصية ولا لاعتقاداتي المسبقة. هذا كان مفيداً جداً. ذقت طعم الحرية.
كمان. كانت التجربة تمريناً في الموازنات والقرارات المتعنّية الدقيقة. كيف أترك تحيّزاتي بره الصندوق، لكن أحتفظ باعتزازي الصافي داخله. كيف أتخلى وأتجرّد، بدون أن أفرّغ ذاتي من ذاتي.
كنت أتحدث مع أختي قبل أيام عن بطل مسلسل مفضّل. أقول لها أنه يزعل، لكن لا يستجيب. والزعل مختلف عن الاستجابة. بمعنى أن الرجل يغضب من خطأ وقع عليه، لكنه لا يستجيب لهذا الخطأ بكل ذرّات هويّته. يغضب فقط لأن هناك خطأً ما. الخطأ لا يحكي القصص عنه وعن حياته. وهو بالتالي ليس مضطراً للاستجابة بقصص أخرى من حياته. يفعل ما يحتاجه الأمر ليصحح الخطأ، ويمضي في طريقه.
الساعة الآن ٦:٥٠ صباحاً. استيقظت الفجر لأصلي، ثم قررت ألا أعود للنوم وأن أقرأ قليلاً ثم أبدأ العمل. لازلت أتعجب من وقت لآخر من المهام التي أستيقظ الفجر لانشغالي بها. عجبي نوعان. أحدهما ممتن للرزق بكافة أشكاله، للصحة والمعرفة والدخل والتنوع. وثانيه عجب متكبّر بعض الشيء، أتردد في الكتابة عنه لأن الكتابة عن الكبر كبر، لكن أدفع نفسي لذلك لعل في هذا الصلاح، لعل في الكتابة تفكيكاً لما تبقى منه. لا أودّه، وقبولي لوجوده اليوم هو قبول لأطلال ذكرى تبقّت بلا حضور حقيقي. ايش نسوي يعني نفجّرها؟ خليها. نطل عليها بنصف عين. نتأكد أن الحياة تتلاشى منها بدون تدخّل منّا ولا غَلَبة.
نشرت التدوينة. عبأت شعري بزيت بذور العنب ولففته بربطة حرارية. أعرف فطوري منذ الأمس، وأفكاري باتت تشتاق لأن تغمس يديها في ملفات العمل.
صارت الساعة السابعة. صباحكم طيّب ومُرزق إن شاء الله.