تحطّ الفراشة على كتفي

ألوانها داكنة. لكن أعجوبة.

الشاي غرّق الساندويتش، للأسف، والسمكة ذات الزعانف الصفراء والحرشفات الداكنة تدور وتتمخطر في جانبي الضحل من البحر. أجلس على كرسيي الأزرق، أريح من الصبّات الاسمنتية المتاحة على الواجهة، لكنه ليس مريحاً تماماً بالضبط. عقلي ليس خاوياً، لكنه يبدو لي خاوٍ، وأعبئ قلبي بالذكر. 

السائق ذهب ليبتاع فطوراً بديلا للساندويتش الذي غرّقته كاسة الشاي، مع أنها- يُفترض- محكمة الغلق. مسجد الرحمة العزيز على يساري، ودانكن دوناتس على اليمين. تصقعني الشمس، وأنا في انتظار الساندوتش الجديد من الكافتيريا البعيدة أول البحر. 

قبل سنوات، وقبل تطوير الواجهة البحرية، ذهبت للبحر في نفس الساعة من ليلتين متتاليتين، وجلست في نفس المكان مع قريبة تزور جدة. اليوم الأول لفت انتباهي رجل عليه سمات المتقاعدين الجدد، شاربه مصبوغ بأسود داكن وبشرته سمراء باحمرار وكأنما تعرّض للشمس لساعات. الرجل كان مشغولا بنقل الحجارة على الشطّ. لم أتساءل عمّا يفعل بالضبط لأنني لا أحب الانشغال بتصرّفات الغرباء. شيءٌ ما، كذلك، صرفني عن الفضول، يشبه المروءة ويشبه إدراكي لتفضيله ألّا يلفت الانتباه. خلّيه في حاله كما أحب أن يتركني الآخرين في حالي. 

في الليلة الثانية صدفت أن أتى رجلٌ بكرسيه ليجلس قرب الشطّ نفسه، ويراقب الرجل وهو ينقل الحجارة ويعيد ترتيبها، الزائر الجديد كان في سنّ التقاعد أيضاً. يرتدي الغترة البيضاء وشاربه أبيض رمادي لم يتعرّض للصبغة. سأله وكأنما يعرفه من زمان: ايش قاعد تسوّي؟ ورفع الرجل المحمّر رأسه ورد عليه ببساطة وبلا إنزعاج، ربما للتقارب في السنّ والمزاج: أرتّب الحِجارْ عشان الناس تعرف تمشي وتوصل للبحر براحتها. 

لا يعرفني هذا الرجل. لا أعرفه هذا الرجل. لكني أفكر فيه كثيراً. لم أنسه طيلة السنوات الماضية وأرجو ألا أنساه لبقية العمر. أفكر في انشغاله، وخدمته، ورغبته في أن يساعد الآخرين على أمر يجده مفيداً وذا جدوى، بينما قد ينصحه آخرون بتكريس وقته لما ” ينفع”. ترتّب حجارة؟ هذا أمرٌ شخصيٌ للغاية، ذوق وتفضيلات وشريحة مقطعية لا تخطر على بال أحد. والله العالم كم قضى من الأيام، يزور المنطقة، ويرتب حجارة شاطئها. ربما تكون هذه خبيئة بينه وبين ربه، أو ربما تكون الغنى من المقصود في الحديث الشريف ” إن الله يحب العبدَ التقيَّ، الغني، الخفيَّ”. أصلحنا الله وصحح نوايانا. 

فاطمة جول، في لحظة جوهرية من قصّتها، قالت: ” أريد أن أكون بخير”. أفتح دفتر يومياتي على صفحة عشوائية. فيها ملصقات تشبه رسومات إدوارد هوبر. السطر الأول يحوي جملة واحدة، متأكدة أنني لم أكن أستعيرها من فاطمة الأخرى. قلت: أريد أن أكون بخير. 

أظنّ أن هذه رغبة تمرّ بنا جميعاً. هل هي دائمة؟ هل هي واعية؟ لا أعرف. ما أعرفه أنني في ذلك الصباح، قلت أنني أريد أن أكون بخير. ثم أتبعتها بسطر آخر. ” يارب. أريد أن أكون بخير”. 

لازلت أريد أن أكون بخير. أصبر على الألمّ الممض بقول: ” إنا لله وإنا إليه راجعون” كما أوصتني أختي الكبرى، أجرّب أن آخذ الأمور بالهدا، لا أطالب نفسي بما أرى أن من الطبيعي أن تؤدّيه، أقبل منها مايمكن أن أراه تكاسلاً أو ضعفاً في الهمّة. أروح وأجي على البحر. أنام وأنا أستمع لروايات مقرؤة صوتيّاً، روايات قديمة من سنوات دراستي الجامعية. ترسل لي صديقتي الحلا البيتي التي تعرف أنني أحبه. يظل مغطىً في الثلاجة لا تمتدّ إليه يدي لكن وجوده يؤنسني. أكتب في يومياتي، أكتب في هذه المدونة، أتشجّع وأفكر في مستقبل الله يحوطني فيه باللطف كما عوّدني على الجميل، وأقيس على مامضى. 

دمتم بخير، وحفظ الله لكم أحبابكم في الحضور وفي المسير.


الصورة من هنا، سمحت لنفسي باستخدامها وعلّ صاحبتها لا تمانع في ذلك.

رأيان حول “تحطّ الفراشة على كتفي”

  1. عزيزتي فاطمة،

    تحيةٌ لكِ، وبعد

    منذ فترة وأنا أتابع تدويناتك، ثمّة ما
    يشدّني للقراءة على نفس واحد، لم أعرف ما هو، فقررتُ تركه إلى أن يتبيّن لي شيءٌ منه..

    اليوم، شعرت أنّ ما يشدّني إلى طريقتك في التدوين هي تَجاورُ الأشياء والمشاعر والمواقف لبعضها وإن لم تكن متطابقة.

    الأمر يشبه تنسيق أزهار، أو تجميع لوحات، أو ترتيب قطع ملابس مختلفة أو حتى قطع أثاث ملوّنة..
    لا أدري، لربّما هو شيء آخر، لكنّه يعجبني.

    🦋

    Liked by 1 person

اترك رداً على وفيقة إلغاء الرد