يضيء الغرفة نورٌ جانبيٌ أصفر، مع الشمس الهادئة التي تدخلها من النوافذ الزجاجية. أواجه اختيارين، أوازن بينهما قبل أن أختار. إما أن أدع الدموع تنهمل بهدوء على خدي، أو أن أفتح الكرتون الأخضر الذي يحوي نصف تورتة شوكولاتة وأغرس شوكتي البلاستيكية فيه وأنا أقرأ رواية تجري أحداثها في فيلا شاطئ تاورمينا الإيطالية.
اخترت القرار الذي يبدو صحيّاً أكثر. التورتة والرواية.
أكلت ثلاث لقمات أو أربعة ربما قبل أن يطلب مني جسدي التوقف. لا أميل للشوكولاتة أصلاً. لكني لم أتوقف عن القراءة. أيوة يا أيتها الرواية الرديئة، خذيني لتلك الفيلا بعيداً عن الحزن الرقراق المتلألأ كبحيرة تحت الشمس. حتى وأنا مدركة لجمال هذا الحزن، وضروريته لروحي، لم أجد قدرةً على اختياره اليوم. ربما غدا. أو بعد غد. أو الإثنين من الأسبوع بعد القادم. ربما في يناير. أو في رحلة قطار طويلة آخذها بعيداً عن المدينة.
كنت- وأنا فاطمة مصغّرة، أي أنني لم أبلغ وقتها العشرين- قد وصلت لخلاصة مدهشة: يعيش المصريون حياة ملحميّة. والسبب هو أنني تعرّفت على كتب عبدالوهاب مطاوع، ألف رحمة ونور على روحه، في وقت مبكّر من حياتي وقرأت له مجاميع بريد الجمعة. وكنت أستغرب جداً من قائمة الأحزان والأفراح الكبرى التي يمرّ بها المواطن المصري، بينما لا أراها في حياتي ولا حيوات غيري. آه. المصريّون، إذن، هذه حياتهم. حياة دراميّة. أسامة أنور عكاشة. بينما بقية الخلق يعيشون حياتهم في رتابة وروتين.
كبرت وعرفت أن في حياة كل واحد فينا ” ملحمة” صغرى. ترويها أم لا ترويها أمر يخصّك، لكنها موجودة. يودّ الواحد أن يعيش حياته في عافية، بلا أحزان كبرى وبلا فقد ولا مخاوف وفقدان للذات. لكن تحصل. نسأل الله الحفظ والسلامة والتمكين والعافية. أمور خلفك، أمور أمامك، والحافظ الله.
في أشياء أدعي إنها تتساقط عني كما يتساقط الورق عن الشجر في الخريف. على مهلها وفي وقتها. وأحياناً وبدون دعاء، ألاقي أمور وحواجز تتهاوى وأنا أظن وقوفها حقيقة مُطلقة. اليوم انتبهت أن الدفاعيّة التي كنت أتعامل بها في بعض أمور حياتي باتت رملاً على شاطئ بحر. وفي نفس الوقت صديقة عزيزة علي امتدّت بيننا سنوات وسنوات من الابتعاد المقترب تخلّت عن الخفّة التي كانت تحبّ تناول الأمور من خلالها. في نفس الوقت، بلا اتفاق، اتجهنا لبعضنا وكأنما كنّا في أمسّ الحاجة لهذا الحضن. من كان يظن أن الدنيا ستدور، وستعود بنا إلى نقطة الأمل التي التقينا عليها من الأصل، لكن لم نكن وقتذاك مستعدّين لها؟ كما يقول عبدالمجيد: وياما دارت الدنيا عجب.
لم أنهِ الرواية الرديئة بعد. لا أظن أنني سأفعل، لست مهتمّة على الإطلاق بمصير بطلتها، لكني سأظلّ شاكرة لتلك الفيلّا على الشط الإيطالي. حملت عنّي وقتها عبء الوجود.
تصبحون على خير، وكل مودّة واردة أو شاردة.