في الحلقة الخامسة من الجزء الأول من ليالي الحلمية. وأنا الآن دائخة. دائخة من الجمال. مغرمة بالجمال.
حرفياً. لدرجة أنني اضطررت لإيقاف المشهد- السبب المباشر لدوختي- وفتحت ملاحظات الجوال لأكتب وأعبّر وأُنفِّس. وأنفث حرّات الجوى كمان.
في أوّل رمضان عملت بحثي المعتاد الذي بتّ أجريه كل سنة تقريباً خلال الخمس سنوات الأخيرة. أبحث عن الدراما السورية، خصوصاً تلك التي أُنتجت لرمضان من دمشق، وليس من دبي أو من القاهرة. لم أجد شيئاً يستحق المتابعة، وكذلك كان الحال رمضان الماضي. بس رمضان الماضي أذكر كان هناك مسلسل أو مسلسلين يستحقّان، لكنهما قاتمين للغاية وأنا أحتاج الهواء والنَفَس المتأمّل في التعامل مع الأحزان. هذه المرة لم أجد شيئاً. الوجوه منفوخة، سيدات حُبسن بين عمر الخمسة والأربعين والستة والأربعين على رأي بيل بُر، وظللن في هذه المنطقة الغريبة الدِسيوتيبيه عشر سنوات. الممثلون العظماء.. أوّلهم بسّام كوسا، يُفترض أن يمثّل دور الجدّ، ولازال يمثّل أدوار منتصف العمر.
هذه المرة شملت المسلسلات المصرية ببحثي. على أمل أن أجد شيئا شبيهاً بـ” سابع جار“. لم أجد. فأغلقت نافذة البحث ورضيت بأنني لن أشاهد رواياتٍ متلفزة بلغتي وبقصص أهلي. وعُدت لمتابعة ذا سوبرانوز الذي أشاهده للمرة الأولى هذه الأسابيع.
المهم. قبل يومين أو ثلاثة شعرت أنني بحاجة ماسة لمشاهدة شيء عربي. ذا سوبرانوز- على عظمته السينمائية- لا يسدّ الحاجة الوجدانية التي أود لها أن تمتلئ. فكرت بقراءة رواية عربية ولدي خيارات أعرف أنها ستعجبني. ولكن الروايات العربية التي تخاطبني حقاً ترفع الغطاء عن بئري العميق.. تفتح خزانات المشاعر كلها بدون تحّكم منّي. ولا أميل لأن أتلقى مثل هذا النوع من السلطة الفوضويّة. إن كنت قارئاً لهذه المدونّة ربما تكون خمّنت سلفاً أنني أتعامل مع جرعات المشاعر كما يتعامل الصيدلاني مع جرعات الدواء. حريص على ضبطها، مُنتبه لكميّتها وكيفيّتها ومواعيدها، وتوظيفها لأغراضها الطبّية السليمة. المشاعر السداح مداح لا تناسبني. بل وأشعر أنها تضييع لطاقة بنّاءة وغالية يمكنني أن أحتفظ بها لنفسي. وأهبها للغاليين على روحي.
المهم. للمرة الثانية أقول ” المهم” بس مش مهم.. 🤷🏻♀️
خطرت ببالي ليالي الحلمية. وكنت قد شاهدتها للمرة الأولى ربما في ٢٠٠٨ أو ٢٠٠٩ لا أتذكر. أتذكر فقط تقديري لها واستمتاعي بنسيجها الدرامي. فقلت يللا.
شاهدت الحلقة الأولى. الثانية. هممم. لم تحرّكني كثيراً.. ولكنها بدت ترفيهاً جيّداً خلال اليوم. الحلقة الثالثة والرابعة خطفت قلبي. الخامسة؟ تعرف ما حصل.
درست في ٢٠١٨ منهج البحث النوعي على كورسيرا. الأستاذ في أولى المحاضرات كان يتحدّث عن علم الهرمينوطيقيا، أو علم التأويل. وهو أحد فروع علم المنطق. يُعنى هذا العلم بما تأتي به إلى طاولة النص كمُفسّر. يعني تجاربك وفهمك للحياة تتدخل تدخلاً مباشراً في صناعة تفسيرك للنّص. وبالتالي يكون المعنى مقاسمة بين صاحب النص وبينك كمُتلقّي.
بشكل عام مهتمّة بالتاريخ. بشكل خاص مهتمة بتاريخ العرب الحديث في بدايات القرن العشرين. بشكل أكثر خصوصية، هذه الشهور تحديداً، مهتمة جداً بالحرب العالمية الأولى والثانية. أقرأ عنهما الكتب، ومؤخراً شاهدت وثائقي على نتفلكس عن الحرب العالمية الثانية وما حصل للألمان. بعدها قرأت هذا الكتاب، وأُصبت بالإحباط لأنني كلما حاولت أن أجد تقييماً شبه مُحايد- شبه، راضيين بالشبه ومتوقعينه كمان- لما حدث بين هتلر والحلفاء، لا أجد ذلك. الهولوكوست جعلت من أي محاولة محايدة لرواية تلك السنوات شراً محضاً. بعدها أعدت قراءة رواية مفضّلة عن جاسوس ألماني يعيش في لندن خلال سنوات الحرب.
أتيت لمشاهدة ليالي الحلمية، والتي تدور أحداث حلقاتها الأولى في قاهرة بداية الأربعينيات من القرن العشرين (الحرب العالمية الثانية كانت بين ١٩٤٠ و١٩٤٥، ووقتها مصر كانت تحت الاحتلال البريطاني. الاستعمار كما يقولون).. أتيت لمشاهدتها وأنا مِحمّلة بالعجب، والفضول والأسئلة والخيالات، مما أحطت نفسي به خلال هذه الشهور. وقدّمت لي هذه الحلقات قطعاً إضافية، صاخبة ومثيرة وجميلة، للحلقات التي تدور بداخلي. فأتلقاها بعمق. وأتلقاها بحب. وأتلقاها بشكر. ثم أدوخ من الجمال.
أتيت أيضاً لمشاهدة الحلمية وأنا مبهورة بفكرة العلاقات الإنسانية وتحوّراتها، وليس تحوّلاتها فقط، على مدار عقود من الزمن. فلان الصغير بات كبيراً، وفلان عرف فلان في ذاك المكان ثم صادفه مرة أخرى في مكان آخر. الرفاق في سنوات الحب توزّعوا، ثم تجمعوا والنفوس تغيّرت. الجميل الذي امتدت به يديك دون قصد، وبات صاحبه يطاردك من مكان لزمان، كي يرده لك مراراً وتكراراً وأنت تقول آمين آمين.
وفي حلقات الحلمية، ما أعرفه عن مستقبلها، تحوّرات كبرى. فدائيون يحاربون الإنجليز، ضبّاط أحرار يقومون على البلد، سفراء تجّار وتجّار سفراء. ومقاهي وعمّال مصانع وأولاد يقاسون الحرمان في الصغر ويتخطوّنه في الكبر. أشيااااء تحصل يا رجل.
وأتيت لمشاهدة الحلمية وأنا أحاول استعادة إيماني بمستقبل روائي لا تحكمه الشفاه المنفوخة والجيل الأوّل الذي لا يريد أن يتنازل عن مكانه للجيل الثاني والثالث. لا يريد أن يتعلّم حلاوة أن تكون معلّماً، أن تشرف على النبات الحلو ليكبر ويقوى عوده، وأن تستمتع بالجلوس على جنب، مكانتك محفوظة وحقوقك على العين والراس، بينما تحمل الأجيال التي سقتها أمطار شبابك الراية وتكمل المسيرة.
لم أكن أريد التنازل عن الإيمان بأن في مستقبل الأيام الكثير من الأعمال العربية الحلوة. الصادقة. المهمّة. وأننا سنعيش موسيقى روحٍ تجلّت لعشرات، بل مئات، اللحظات القادمة.
وليالي الحلمية، بأحداثها المتسارعة، بتمثيل أبطالها الصغار قبل الكبار، بتعقيد مشاعرها ولقطاتها الفاتنة، أعادت إليّ إيماني. ولا تقل لي بأن هذا زمن قد راح. لا. نحن العرب نحمل جذوة القصّة، شعراً ورواية، في أعمق نقطة من أرواحنا. الشفاة المنفوخة ستذهب، وسيأتي قومٌ آخرون، نحبّهم ويحبوننا.
الفاتحة على روحك يا أسامة أنور عكاشة.
عنوان التدوينة من تتر المقدمة لليالي الحلمية. من كلمات الشاعر سيد حجاب.
يعود غريب الدار ل أهل وسكن
مشاهدة ممتعة بإذن الله
إعجابإعجاب
شكراً لك ⭐️
إعجابLiked by 1 person