حصيلة اليوم.
البقاء حتى وقت متأخر على الجوال، أشرح لصديقتي العزيزة، الجميلة اللطيفة السُكّرة، كيف يمكنها أن تقدم لأطفالها الأعزاء شوربة بطاطس لذيذة لأنهم أعلنوا تمرّدهم على الشوربة التي تقدمها لهم كل يوم.
العالم بأكمله، بتلفزيونه ويوتيوبه وبلوجّاته وڤلوجاته، لم يستطع أن يقدّم لصديقتي ما تحتاجه. أن يعيد تعريف عملية الطهي لتتوائم مع هندسة عقلها. واليوم مشيت معها خطوة بخطوة، أدير مقود سيّارتي بحرص ومراعاة، كي تستجيب عباراتي لمنعطفات طريقها. والنهاية كانت طيّبة للغاية الحمدلله. قدّمت للثوّار ما يرضيهم. الابن الأكبر، قائد حملات المقاومة، غرف لنفسه، كما تقول صديقتي، مرّتين. ألف هنا وعافية على قلبه.
تفتّح قلبي على الحب حينما رُزقت بأوّل ” نقطة صغيرة” في حياتي. ابنة أختي. ثم تتالت النقاط، حفظهم الله ورعاهم، وماعرفت حبّاً عرّفني على أشياء بداخلي لم أكن أعرفها من قبل كحبّي لنقاطي الصغيرة. السيدات يعرّفن بأنفسهن على أنهن ” زوجة وأم”. هذا تعريف منطقي ومعقول، يشكّل جزءاً أساسياً من هويّاتهن.. عنّي أنا؟ أنا ” خالة وعمّة”. وهوّيتي تتسع وتكبر عندما أفكر في أنني خالة ” خرافية”. و” عمّة” دافئة ومُحبّة بدون أجندات. أعتني وأقود وأضمّ وأحب، وأوجّه وأؤدّب وأمارس السلطة الممنوحة لي بكل كرم، ومسؤولية. وشعور الحمد عندي لا تسعه بحور الأرض.
من نقاطي الصغيرة من لا يشبه أحداً على الإطلاق. وظهر هذا من وقت مبكر، مبكر للغاية. أعترف أنني منذ السنوات الأولى لحياته، يخلّي لي هو، ولكي أستطيع أن أصنّف شخصيته، وبالتالي أتعامل معه بما يناسبه، احتجت لأن أفكر فيه، بيني وبين نفسي، وبيني وبين والدته أيضاً لأنها كذلك كانت حائرة بأمره، بأنه ” فضائي”.
لا أرغب في أن أوضّح أكثر. كان طفلاً سعيداً، ظريفاً، ذكيّاً. يملأ حياتنا بالبهجة. ولكنه يفكر بطريقة لا تنتمي إلى كوكب الأرض. إن أردت أن تعرف أكثر عمّ أتحدث، يمكنك أن تقرأ ما كتبته السيّدة منى عن ” نهاية“. أساساً هذه التدوينة عبارة عن استجابات متقطّعة لما أثارته نهاية من ذكرياتي.
الآن هذا الطفل قد أصبح فتىً في أواخر أعوامه الدراسية. حفظه الله ورعاه. المفاجأة، لي ولوالدته، أن فضائيته أصبحت تأخذ شكلاً مألوفاً لنا. أصبحت ضمن السياق الاجتماعي المتعارف عليه وإن كان من الأطراف. يعني بين كل فترة والثانية يفاجئك بتصرفاته، لكنها مفاجأة لا تثير التساؤلات. المفاجأة التي أتحدّث عنها هي أنه، في فتوّته، بات يشبه من؟ يشبه والده.
يبدو أنني أحتاج لشرح ما أقصده بشكل أفضل. كنت أتوقع أن الطريقة المختلفة التي يرى فيها الابن العزيز الأمور من فترة مبكرة للغاية هي شيء يخصّه وحده. شيء فضائي يحتاج لأن نتعامل معه بحرص وفهم، كيلا يصطدم مع أعراف المجتمع. ولكن ظهرت أن هذه ” الفضائية” هي امتداد لفضائية والده. نحن فقط عرفنا والده في شبابه، عندما استطاع أن يصغي ويتفاهم ويجري التسويات مع طريقة التفكير الجمعي، كيلا يظهر مختلفاً كل الاختلاف.
النقطة الصغيرة، العزيزة، أيضاً أجرت التسويات مع المجتمع. لكني سعيدة للغاية، وشاكرة، أنها لم تتخلّ بشكل كامل، ولا حتى بشكل جوهري، عن فضائيتها. لازال التفكير مختلفاً، لازالت ردود الأفعال منعشة في جدّتها وطيبتها وغرابتها. لازالت العيون تلقط الدنيا حسب ” ضبط المصنع” كما تقول قصاصات. تلقطها بالزاوية الذهبية، العجيبة الحبيبة الغالية، التي كانت عليها في طفولتها.
لا أعرف فضائيين في حياتي غير نقطتي الصغيرة، لكني تقريباً متأكدة من أن صديقتي العزيزة التي لم يستطع العالم أن يقدم لها صياغة الطهي بطريقة تستوعبها، فضائية سابقة. وإن سألت والدتها العزيزة عن طفولتها، سأجد كل الدلائل التي تؤكد افتراضي هذا.
رفقاً بالفضائيين الصغار والكبار في هذا العالم. يستحقّون مكانهم على الأرض، ودنيانا تستحق أن نحصل منهم على كل الجمال المختلف بمجرد كينونتهم كما هم.
يااه يافاطمة، لقد أدرتِ مفتاح الصندوق السحريّ المقفل بتدوينتك ، كنت أفكر في كتابة ما واجهته في التعامل مع أطفال التوحّد، وكيف أني كنت أمرّن نفسي لمواجه أطفال فضائيين فعلًا لمن يجهلهم ويجهلونه !
ما أحببته حقاً كيف أنهم زرعوا في صدري حقولاً من الصبر ، لازلتُ أطعم ثمارها حتّى هذه اللحظة، أعتقدُ أن من يأبه لغريبي الأطوار هم غريبي أطوار مثلهم ولكنهم إنتقلوا لمرحلة مجتمعية أكثر إتساعاً هههه
إعجابإعجاب