نعم. أنا مُدركة لقتامة الألوان التي تحيط بنا، وبناسنا. ولكن هذا جزءٌ من القصة، ولم نصل بعد إلى بقيّة الطريق.
مدركة أن هناك هجوماً يطل برأسه من وقتٍ لآخر على ما نمثّله، وفي هذا الهجوم الكثير من اللاعدل. الجفاء القاسي. والغباء الذي يؤدّي للظلم والسواد. وأننا، في مقابل ذلك، نصرف طاقاتنا الغالية في كثير من الأوقات لإدارة ” حمول” التعاملات. وفي بقية الوقت، للتداوي منها.
مع ذلك، أرى أن هذا جزء من الطريق. وأمامي يمتد الشارع الواسع. والحياة الحلوة. الصح. الطيّبة. الصادقة. التي لا تخون، ولا تميل.
قبل فترة كنت أشوف برنامج عن أكشاك الشوارع. حلقات، وفي كل حلقة يربط بين فقراتها المتنوعة تركيز معين على كشك له تاريخ وله ثقل ثقافي، وطعامي، ما. وكل حلقة من بلد.
الحلقة اللي كنت أشاهدها كانت من تايوان. والكشك المركزي هو كشك بدأه صيّاد وزوجته لتقديم يخنة السمك. رحل الجيل الأول، وتولى الابن وزوجته العمل، ثم كبرت الحفيدة، وانهمكت في العمل العائلي أيضاً.
الحفيدة كانت ملفتة لي من اللحظات الأولى لظهورها على الشاشة. في بداية ثلاثيناتها على ما يبدو. ولحضورها شفافية مريحة تتجاوز ما تعوّدت على التقاطه. والمعلّق يتحدث إن الحفيدة منذ استلامها للعمل قبل سنوات حوّلت الكشك إلى تجارة جيدة وافتتحت أكشاكاً في شوارع أخرى مع الاحتفاظ بالتحضير التقليدي نفسه للطعام.
في العشر دقائق الأولى من الحلقة ربما تظهر الحفيدة على دراجتها النارية متوجّهة لسوق الخضار. تقول بالصينية: ” بما أنني أنا الفتاة التي عادت لتتولى عمل العائلة…” وتسكت للحظات بينما أقرأ الترجمة، وأتوقع المصاعب التي ستواجه الفتاة التي تتولى في بداية عشريناتها تجارة كهذه في ثقافة أبوية كهذه، تكمل القول: ” فسأفعل وأقرر ما يحلو لي. أنا المسؤولة”.
تفاجأت كثيراً بالعبارة. لم أتوقعها على الإطلاق في سياق السيدة ولا سياق حديث البرنامج. كأنها نفحة هواء منعشة هبّت علي من حديقة ربيعية وأنا في وسط هذا الشارع.
العبارة لم تأتِ بصيغة تحدّي تعودنا عليها من البرامج التلفزيونية. التقاطي لها كان لأن النَفس مختلف تماماً. نفس عادل هادئ، وقوي بدون أن يكون متنازعاً، وذكي كثيراً كثيراً.
وتوقعت أن الأمر سينتهي هنا. لكن بمرور معظم الحلقة، شاهدت كيف أن الفتاة هذه عندما عادت من دراستها الجامعية في العاصمة بناءً على استدعاء والديها، وُضعت بين ٤ حوائط صغيرة. مطلوب منها أن تساعد في العمل، ثم تُعارض في أبسط قرارات التغيير. وذكرت تصرفات على أساس إنها تصرفات عادية، ولكني رأيت فيها تقويضاً متعمداً من قبل الأهل لسلطتها وحاجتها. ورق قلبي لها وهي تقول أنها كانت تذهب للصلاة في المعبد، وتسأل ” القوة السامية” الإرشاد. كل هذا الحديث في سياق ” الحكايات العادية”، لا في سياق المآسي والتحدّيات. وكيف وصلت إلى اتفاقية ما- ماكرة ومؤذية في سطحية مكرها واضطرارها لها- كي تدخل التغييرات التي يحتاجها الكشك وتمررها على والديها. لكنها فعلت ما يحلو لها. وستفعل ما يحلو لها.
هذا النوع من العشب الأخضر الذي أراه في عالمنا. وأراه يزهر ويتسلق. بدون أن ينتظر استئذان أحد. هو موجود مثلما القتامة موجودة. ونفَس الخير طويل. أنا مؤمنة به، ومؤمنة بك يامن تستمع إلى أغنية يبدو أن من حولك لا يستطيعون سماعها. الخير حال ومقيم. والشر آتٍ ولكنه لا يقيم والحمدلله. سترحل القتامة، وبرحيلها سنتفاجئ- مع معرفتنا- بانتشار الأخضر الذي أفلت من أيدينا وغمر الطريق بينما نحن مشغولون بالتفاهم مع فلان، والترتيب لعلّان، والتداوي من هذا وذاك.
الكثير من الودّ. وبوكيهات العشب.