كانت مُحصّنة جيداً في قلعتها. وحدها تخبّئ أحزانها. وحدها تواجه شكوكها. وحدها تعرف حقيقتها.
وحقيقتها، في الحقيقة، لا تسرّ كثيراً. أو هذا ما كانت تظنّه. هذا ما تربّت عليه. هذه النتيجة التي وصلت إليها اليد الصغيرة بعد سنواتٍ من مراقبة الكبار، الغوص في انعكاس صورتها بسواد أعينهم.
تسامت. تشبّثت بالواجب، بالمسؤولية، بالأصول. بما ينبغي أن تفعله، أن تحاول أن تفعله.. وإن قصرت جهودها اليوم، وغد، وبعد الغد. يكفيها أن تصل إلى نهاية اليوم وقد قدّمت ما عندها. وما عندها لا يكفي. ما يجمّل.
ثم أتت الحفيدة. ثم كبرت الحفيدة. ولمّا كبرت؟ أحبّتها. تقول أن هذا متوقع؟ ولكن الحفيدة أحبّتها بطريقة لا متوقعة. حب جديد حب لا يدك الحصون، بل يمسك بيدها، ويخرجها منها، ويلف معها كل مكان، يُعجبها هذا ويُعجبها ذاك.
أحبتها الحفيدة لا كجدّة، بل كما تحب مراهقة صديقتها. أغرقتها بالضحكات، بالاعجابات، بالالتقاطات المايكروسكوبية لحقيقتها التي تفلت منها في عبارات لو استطاعت لما أفلتتها. ومع ذلك الحفيدة تتلقى هذه العبارات الفارّة من السجن الصارم، وتحوّلها إلى مهرجانات. الحفيدة لم تحبّها كما يُفترض أن تحبّها، لم تلتفت إلى صفاتها الحميدة، إلى تحمّلها المسؤولية والتزامها بالأصول.. بل أحبتها لحقيقتها. قلبت شكوكها رأساً على عقب.
أيُعقل أن تكون أسرارها تستحق الضوء والحرّية؟ أيُعقل أن تكون مخطئة، وأن حقيقتها- في الحقيقة- زي الفُل والياسمين؟
هل تجروء على أن تسمح للباب المغلق بالارتداد قليلاً؟ أن تسمح للطفلة الصغيرة، وللشابّة الفتيّة، بعيش العمر مرة أخرى وهي في الستين؟
تتجاهل الحفيدة أفكارها البكماء، وتشدّ كمّها لتبقى معها. على هذه الأرض النديّة المخضرّة. أن تضحك من قلبها. أن تعترف بأنها لا تفهم كذا. وتود أن تتعلم كذا. وأن تتخلى عن كل ماعرفته عن نفسها، وتتعرف عليها للمرة الأولى من العيون الشقيّة المُحبّة.
* عنوان التدوينة من أغنية محمد منير” بنات“