توصل لمرحلة في حياتك، تأمن فيها نفسك.
ليس ” على” نفسك. بل نفسك.
وأن كل الأساطير الطفولية التي حُذّرت منها صغيراً، أو تكونت لديك في مرحلة مراهقتك وشبابك، ليست حقيقية.
أن ذاتك تستحق منك أن تأمنها. لأنها طيلة هذه السنوات الماضية أدّت الأمانة، الصغيرة قبل الكبيرة والتافهة قبل العظيمة، قدر ما تستطيع. كفّت ووفّت.
من أساطيري الطفولية أنني إن لم أنتبه، فسأقع في فخ الإهمال. قيمة ” المسؤولية” و ” الواجب” هي قيمة عالية، عالية، في أسرتنا. ونتيجة لهذه القيم، ولصفات شخصية أخرى، تفتّحت عيناي على أهل وأخوة يتعاملون مع الحياة بفورية. كلما أتت مسؤولية، هبّوا لها بالعتاد. وأتيت أنا. هادئة أتمخطر.
لم أكن أعرف ما اسمها. هذه الريح التي تعصف بالنوافذ والأبواب. هذا التيار الكهربائي الذي عندما يسري في البيت، وهو يسري كثيراً، يضخّ الطاقة في أضلع الكل ماعداي. أمتغص وأتأذى.
في مراهقتي وصلت لنتيجة أنني لا أتحمل المسؤولية. واستعددت لأوقّع أي ورقة تتهمني بذلك وأنا أبتسم ابتسامة عريضة. ليست لدي هذه البضاعة، وعندي بضائع أخرى.. فلا بأس.
في مرحلة متأخرة من صباي قرأت مقالة لعبدالوهاب مطاوع، أسعد الله روحه في الجنّة. يحكي فيها عن صديقه الكسول أيام الجامعة. ينام كثيراً. لا يهتزّ لأمر و” مخلّيها على الله”. لا أتذكر تفاصيلها- ليتني أحصل عليها- ولكنها كانت مضحكة كثيراً، وفي نفس الوقت مدهشة. كسل الصديق، وبلادته في التعامل مع قلق الحياة، كان أسطورياً. بعد سنوات طويلة، يرى عبدالوهاب مطاوع صديقه الكسول وقد تقلّد منصباً عالياً في وزارته. ربما وزير.
وجدت نفسي في هذه المرآة. لم أفهم العلاقة تماماً.. لم أكن معروفة مثلاً بحبّ النوم.. لكني وجدت أن هذه ” البلادة” هي ما يشتكي منها أهلي. ولربما لم تكن شيئاً سيئاً أصلاً.
كبرت وأمنت نفسي. أمنت أنها تتحمل المسؤولية مع الكبير والصغير. وأن الفرق بيني وبين أفراد الأسرة الأعزّاء كان استقبالنا للمسؤولية وليس تحمّلها في حد ذاته. بمعنى. الوضع الأوتوماتيكي لاستقبال المسؤولية عند الآخرين هو ” هبّ الريح”. التأهبّ العالي الذي يقف على أطراف الأصابع ولا يستطيع أن يرى شيئاً آخر حتى يبلغ الهديُ محلّه. الوضع الأوتوماتيكي لاستقبال المسؤولية لديّ هو ” همممم. خلينا نشوف”. ونشوف فعلاً. بمعنى أن أتأمّلها، أن أعرف حدودها، أن أعيدها لنصابها ضمن قائمة الأولويات لدي، أن أصمم طريقة ما لتحمّلها بدون أن يكون هذا التحمّل ثقيلاً أو مضرّاً بإدراكي الوقتي لأمور حياتي الأخرى.
لست وحدي الذي وجد طريقه الآخر في تحمّل المسؤولية. هناك منشقّون آخرون. أختي التي تكبرني بثلاث سنوات تتعامل مع المسؤولية على أنها معضلة لوجستية تحتاج إلى حلّ. لعبة شطرنج حركاتها محسوبة ومتتالية وتحتاج إلى ذكاء مرن وقدرة على تقييم الأمور. وجهها عندما تستقبل المسؤولية لأول مرة هو وجه مُفكّر كلاسيكي. لا تأهب. لكن استغراق عميق.
السنوات الأخيرة عندما ألقت الصدفة بورشة برنيه براون إلى طريقي فهمت قصة صاحب عبدالوهاب مطاوع رحمه الله فهماً أعمق. وكذلك قصّتي. في الورشة تحكي براون عن ملاحظتها لجماعة من الناس تسمّيهم بـ أصحاب القلوب الهانئة. تقول بأنها انتبهت أنهم يضيّعون الوقت في الهنتك والمنتك. ينامون كثيراً. يلعبون كثيراً. ألا يحترمون الوقت؟ ولكن هذه السمة، اتضح من بحثها، هي عنصر أساسي من عناصر عشرة لتعيش بقلب هني. لا علاقة لها بنجاحك المهني وتحمّلك المسؤولية من عدمها.
لا أنام كثيراً ولا ألعب كثيراً. ولكني أقضي كثيراً من وقتي وحدي، أحتاج إلى وحدتي كما يحتاج الآخرون لرؤية الناس. أتعامل مع عملي كذلك، في غالب الوقت، بهدوء يراه الآخرين بروداً وربما قلة انشغال. استيقظت مبكراً اليوم على أساس أن لدي قائمة من المهام تحتاج إلى عناية. ولكن عقلي يقول لي ليس الآن. ليس الآن ليس الآن.
حاولت أن أحفّزه. من هنا وهنا. لكن لا فائدة. يقول لي: نحتاج أن نرتاح. والأشغال ستتم بعد أن نرتاح. في مرحلة سابقة لربما تجاهلته تماماً وقمت لعملي، لست مهملة ولست كسولة، وما معنى أن يحتاج العقل للراحة وهو لم يكن مستغرقاً في مهام خارجة عن المعتاد خلال الأيام الماضية؟ غصباً عنه يقوم يشتغل.
ولكنّي وصلت لمرحلة أمنت فيها نفسي. أمنت أن حواسها عادلة ومتيقظة. ليست كسول. هذه طريقتي في التعامل مع الأمور، وهي طريقة أثبتت نجاحها، ووفاءها، لي على مدار سنوات حياتي.أمنت نفسي. هذا الصباح للراحة. لكتابة التدوينة على مقعدي المفضّل. للتلفزيون الذي ينتظر مني أن أشغّله بشيء مسلّي بعد أن أنشرها. لهدوء يعم المكتب الخالي.
“أحتاج إلى وحدتي كما يحتاج الآخرون لرؤية الناس”
إعجابLiked by 1 person