أخذت في الصباح المبكّر حصة عن نظرية الألوان.
الحصّة كلّها أقل من ساعة، وأعرف جيداً أنني لن أنظر للألوان بعدها كما كنت أنظر إليها قبلاً. مع كل هذه الأهمية مقارنةً بوقتها القصير، كان هناك صوت لاهث يلاحقني طيلة الساعة، يخبرني إنه ” ماعندنا وقت”.
ماعندنا وقت لإيش بالضبط؟ الإجابة هي: لترف التعلّم. للعيون المنفتحة على آخرها من الدهشة. للصفحة البيضاء التي سرعان ما ستمتلئ بالملاحظات. للبهجة غير المقننة. من أين لك هذا؟ لم تشعرين به، وهل شعورك- عجباً يا تُرى- هو إشارة مؤكدة على أنك تتجاهلين مسؤوليات أخرى لا تشعرين أثناء تلقّيها بهذا الفرح؟
في حلقة من مودرن فاميلي يصارع كاميرون وميتشل رغبتهم بتأجيل الفرح. Joy deferment. ربما تشعر أنك لا تستحق هذا الفرح. ليس بعد. بدري عليه. اللقطة هذه- ربما على بديهيتها- كانت مدهشة وفتّحت عيوني على أشياء لم أفكر بها سابقاً.
أحياناً كثيرة أؤجل رضاي الذاتي. Delayed Gratification، حسب بوصلة داخلية لا أعرف ميكانيكيات تشغيلها. فقط أعرف أنني لا أريد فتح هذه الهدية بعد. لا أريد شراء ملابس جديدة هذه الأيام. لا أرغب في قراءة الكتاب المتحمسة له جداً بعد. كمان شوية. في ٢٠١٤ ربما عادت قريبتي العزيزة من مصر وأتتني بمحفظة من أعمال اليد المصرية التي أحبّ. فتحت صندوقها مرة واحدة، تأملتها بين يدي، قلّبتها، أعدتها لصندوقها، وضعتها في الدولاب. ولم أعد إليها إلا الأسبوع الماضي. بين سنة وأخرى تخطر ببالي وأفكر: هل تريدين استخدام محفظتك المصرية؟ هل هذا وقت الاحتفاء بفكرة البضائع الجميلة لأنها جميلة، ليس لأن سعرها غالٍ، ليس لأنها من أجود أنواع الجلد، وبالتأكيد ليس لأن عليها لوجو شركة أجنبية؟ فأقول لا لا، ليس بعد. وترقبّي للحظة الـ نعم يزداد تألقاً كشرارات شمعة عيد الميلاد.
هناك متعة في الرضا المحقق الذي ينتظر عند الباب، أو على رفّ الشباك. يمكنك في أي لحظة التقاطه، لا تنتظره، بل ينتظرك.
لكن تسرّب من بين دفاعاتي، أو ربّما تنكّر ليخدعها، نوع آخر من الانتظار. تأجيل الفرح ليس لأن البوصلة توصي بتأجيله، ولكن لأن صوتاً داخلياً يقول بأنني لا أفي بمتطلباته في الوقت الحالي. لست في أحسن حالاتي. ومادمت لست في أحسن حالاتي، فالفرح عليّ كبير على مقاسي. أو شيء كهذا.
ليس شعوراً دائماً. ولكنه موجود في أحيان. في الأيام التي لا أعرف فيها فكّ الارتباط بين قيمتي الذاتية، وبين ما تحققه هذه القيمة من مكاسب في العالم الخارجي.
أو.
أو كما حصل اليوم.
دراستي لنظرية الألوان تقول أنني بتّ أستعد لنقلة ما في طريقي لم أكن أستبعدها فحسب، بل كنت أتعامل مع استحالتها كبديهية. وأستطيع أن أتتبع رغبتي فيها- ليس الرسم ولا الألوان- منذ أن كنت طفلة، أنفر من مجلات سيدتي التي تبتاعها والدتي، وأفضّل عليها زهرة الخليج التي تبتاعها عمتي. نزعة لا أعرف تسميتها بالضبط، ولا أعرف إن كان هناك من تتبعها بشكل أفضل، وأعطاها اسماً وهويّة.
أفضل ما يمكنني أن أصفها به- وهو لازال وصفاً قاصراً مبدئياً- أنها ” فطرة المُتاجرة”. هي رغبة لطيفة لذيذة بخفة الريشة، شقيّة وماكرة وتركض وراء كرة ملونة في الساحات والشوارع والميادين. أن تُتجّر الأشياء. كل الأشياء التي لا تباع ولا تُشترى تظل في مكانها محفوظة لا تمسّها الأيدي. بقية الأشياء، كل الأشياء، يمكن أن تباع وتُشترى. وفي هذا البيع والتبادل نفسه طبقة مدهشة مذهلة من الجمال. لا أستطيع أن أشرحها أو أفسّر إحساسي بها. دراستي لنظرية الألوان تسمح لي بأن أقترب من تتجير ما لطالما ظننت أنه ليس متاحاً لي، وربما المقاومة الداخلية التي أشعر بها تأتي من أن حلماً ما قد اقترب تحقيقه، فتودّ أن تحذّرني من التعلّق بما قد لا يأتِ. ألا نخشى في أحيان من أن نختبر المدى الكامل لشعورٍ ما لأن غيابه بعد ذلك أصعب من عدم معرفته في الأساس؟
لهذا أجدني هنا. أكتب عن حصّة الألوان. وأتفاهم مع الصوت اللاهث قدر ما أستطيع وما يستطيع. أطمئن قلقه، أذكره بأننا لسنا أطفالاً نحتاج إلى حماية. نفضّل أن نعيش الحياة بشجاعة. أن نحبّ ونتحمّس ونخشى ونترقب. فإن أتت السفن بما أردنا، فأهلاً وسهلاً ومرحباً، وإن لم تأتِ، ففي الشجاعة نفسها معنىً يكفي، هذا وهناك الإيمان دائماً بعطاء الله في عطائه ومنعه كملاذ ومرفأ.
سلمت يداكِ.. أعجبتني هذه الفقرة كثيرًا: “نفضّل أن نعيش الحياة بشجاعة. أن نحبّ ونتحمّس ونخشى ونترقب. فإن أتت السفن بما أردنا، فأهلاً وسهلاً ومرحباً، وإن لم تأتِ، ففي الشجاعة نفسها معنىً يكفي، هذا وهناك الإيمان دائماً بعطاء الله في عطائه ومنعه ”
والنعم بالله ♥..
إعجابLiked by 1 person
كنتُ أطلق عليه ادخار، لكن يبدو أن المتاجرة لفظ أدق😌
كعادتك فاطمة. مدهشة دائمًا👌
إعجابإعجاب