هذا الصباح قررت ألّا أتبع روتيني اليومي. قدّمت الفطور وأخّرت أشياء أخرى. لم أقرأ أورادي ولا اخترت ما سأرتديه لهذا الصباح. وكنت أسأل نفسي لم، ولا أجد سبباً مقنعاً. هناك دافع خفّي يحرّكني، ولبساطة الأمر، ولأنه يوم جمعة وإجازة، استجبت له.. ومشيت معاه.
أمام البوتوجاز. ماشية لا ليّ ولا عليّ صباحية حدّ زي ما يقول راغب علّامة. أنتظر بيض العيون، وجبة لشخص واحد، بينما رفاق المنزل قد فطروا وأنهوا طقوسهم. سني سايد أب. كل الأمور على ما يرام. تبقّى فقط مدّة الملعقة كي أقلب البيضة وأطفئ النار. تقرر فرقيعة زيت متناهية الصغر، متناهية الصغر والحمدلله، أن تفرّ من المقلاة، تقفز في الهواء، تتجاوز حماية نظارتي، وتجد محطّتها على زاوية جفني الأعلى الداخلية.
وقفت لثوانٍ بدت طويلة للغاية أحاول استيعاب ما حصل. هل حصل فعلاً؟ هل هذه الحرقة التي أشعر بها هي حرقة زيت فعلاً؟ طفيت النار. شلت المقلاة لمكانها. فتحت الثلاجة وأخرجت مرهم الحروق. توقفت للحظات.. هل يناسب وضعه على العينين؟ ثم وضعت السؤال جانباً، مش وقتك.. الحاجة لتلافي الحرق أولوية. وضعت قليلاً منه بإصبعي. كأنما أربّت على عيني بكريم المساء.
نحن في رعاية الله. نحن في حفظ الله. كيف نغفل للحظة عن ضعفنا، وعن أن الأحداث ليست بأيدينا؟
لوالدي عمّ توفّي في ثلاثينيات القرن الماضي وهو لايزال شاباً. وخلّف وراءه أرملة رقيقة الطباع لازالت في بدايات الصبا، وطفلة صغيرة لم تتجاوز عامها الثالث. هذا العمّ كان يعمل بالتجارة، وله أطيان. ولكنه عُرف بأن بينه وبين الله خبيئة، والله أعلم. ذات مرة وقع حريق في أحد منازل القرية، وحُبس سكّان الدور الرابع من المبنى لا يستطيعون النزول. فرد وشاحه على الأرض، وقال لهم اقفزوا. فقفز الكل واحداً وراء الآخر لم يصبهم شيء، إلا رجلاً امتدّت ساقه بعيداً عن الوشاح، فكُسرت.
رويت هذه الحكاية لوالدي. لم يشهدها بنفسه. ولازالت تُروى لي. وأرويها لمن هو أصغر كي يرويها لمن هو أصغر منه. لا أميل كثيراً لسماع حكايات كهذه. قلبي ينقبض منها لأن عقلي يعرّضها لتمحيص لا أرى داعياً له. أفضّل ألا أتعامل معها في الأصل. ولكن كل ما سمعته عن هذا العمّ، رحمه الله، ومعرفتي لزوجته التي عاشت عمراً طويلاً من بعده ولم تتزوج، تجعل من هذه الحكاية أمراً مختلفاً. لا علاقة له بالكرامات كما يرويها الناس، بل بالإيمان الصافي أن للنفس الطيّبة قدرات تتجاوز السحر، وأن الأرض والسماء يستجيبان لهذه الطيبة ويُسخّران لصاحبها.
أفكر أن موازين هذه الدنيا ليست عادلة. ولا أعني بنفي العدل وجود الظلم. هذا أمر آخر. حفظنا الله وإياكم من أن نظلم أو أن نُظلم. ولكنك كثيراً من الأحيان تتوقع أن الميزان محايد. يعطيك مساواة بالأرقام، لا تدخل فيها عوامل غير منطقية. مع ذلك، وكما أعرف وتعرف، تدخل.
ترجو أن تكون الترقية التي تنتظرها من نصيبك لأنك أكفأ من تقدّم لها. ترجو أن الناس تذكر لك الخير وقت شدّتها. ترجو أن يكون أخوك أخ، وصديقك صديق، وأهلك أهل. ثم في أحيان، لا يحصل ما ترجوه. لأسباب لاعلاقة لها بأدائك، ولا بشخصيتك، ولا بالمنطق بشكل عام. تحصل حكايات سرّية، أو ليست سرّية بالضرورة، تخرّب عليك بنيانك. تطيش بكفّة الميزان الذي ظننت أنه سيحكم لصالحك. أفكر اليوم أن الأمر له وجهين. وجه مُرّ، ووجه حلو. الوجه المُرّ؟ التوفيق ليس محكوماً بالأرقام. الوجه الحلو؟ التوفيق ليس محكوماً بالأرقام.
التوفيق الأول والأخير هو أن تتشبّث بمعيّة الله. ألا تفلت من يدك هذه الفكرة، وإن فلتت نعود ونمسك بها، مرة واثنين وخمسين. نحن في رعاية الله. نحن في حفظ الله. ولعلنا لا نغفل لحظة عن هذه الفكرة وإن غاب عنّا كل شيء آخر.