بطلة الرواية التي أقرأها هذه الأيام استيقظت اليوم على عيد ميلادها. وفي داخلها نوع من الهمهمة. الهمهمة بأن حياتها ليست على ما يرام. وأن ما قالته لها ابنة الخالة في زيارة ماضية لبيت الأسرة، يلخّص ما تمر به. قالت لها بأنك تبدين وكأن حياتك ” ماشية بالعكس”. في الوقت الذي بدأنا فيه نحن- السيدات في عمرك- نستقر وننهي حياة الترحال، بدأت أنت حياة الترحال وتركت استقرارك طيلة العشر سنوات الماضية جانباً.
لم أتوحّد مع ظروف البطلة، لا ولم أجد أن ما قالته لها ابنة الخالة منطبقاً علي. لكن هناك أشياء تؤثر على استقرار حياتي أتعامل معها في هذه الفترة وأرجو من الله السداد. وبينما أمر بهذا، يقرر شعري، وبدون أي عوامل خارجية مؤثرة، أن يجد الطريقة التي تناسبه ليكون. وهذا يدعو إلى العجب أولاً. الابتسام ثانياً. الامتنان وتحصيل النعم ثالثاً.
مع كل الأشياء التي تخرج عن السيطرة في حياتي، وهي لطالما كانت رفيقة بي مطيعة لأمري، يقرر العاصي المشاكس طيلة عمره أن ينضوي تحت لوائي، ويعطيني دعمه الكامل بلا شروط.
أكتب هذه الكلمات على كمبيوتري المكتبي. أمامي مرآة، ورأسي منحنٍ بحيث لا أرى في المرآة إن رفعت عيناي سوى أعلى شعري وجزء من جبهتي. وأبتسم وأتعجب مرة أخرى.
المشروع المنشغلة به هذه الأيام فيه أربع أجزاء. أنهيت الأجزاء الثلاثة الأولى وبقي الجزء الأخير. أسهل جزء لأن هيكلة العمل قد بُنيّت خلال الأجزاء الماضية. لا يزال هناك وقت على موعد تسليمه. ولعدة أسباب، أتعامل معه وكأنه مساحة لتجربة كل الاختيارات التي أتجنّبها. ليست هناك قواعد واضحة فيه عدا ما يروق لي. لدرجة أنني أحتاج لدقائق كي أقنع نفسي أنني أحتاج لاتخاذ قرار “ب” بدلاً من قرار ” أ” مع معرفتي التامة بأن قرار ” أ” هو القرار الأقرب للعقل، لكن المشروع يتطلّب مني اتخاذ القرار الأبعد عن القوالب. ربما هذا ما يسمّوه بالحرّية الإبداعية؟ لست معتادة على العمل بهذه الطريقة، ولكنها تروق لي في هذا المشروع. تدفعني إلى كسر قواعدي بنفسي كسراً بنّاءً وفيه نموّ أحبّه.
بالأمس كنت أتحدث مع أختي. قلت لها أننا في هذا الأمر نحتاج ” أختاً ثالثة”. ضحكت وقالت ” مش معترفة بخواتك الباقيين؟”، طبعاً أعترف. يخليهم لي ولا يحرمني. ولكن الأمر هذا تحديداً يعيد تصنيف الأخوات تحت مظلّته. ورابطته ليست الدم فقط. وأنا كان لدي أخت ثالثة في هذا الأمر، وكنت أقصدها.. لكنها ابتعدت مع ظنّها أنها تقترب. بعد لحظات قليلة من ذكري لها اتصلت، وتحدثنا لساعة في كل الأمور عدا الأمر الذي يؤرقني ويدفع بالغصّة إلى حلقي. لست عاتبةً عليها، لا أملك أن أعتب عليها وأنا أعرف أنها تعطيني الآن كل ما تستطيع أن تعطيني إياه. لا تملك أن تعطيني أكثر وإن كنت أحتاج إلى أكثر. الحزن على أنها ليست أختي الثالثة في هذه الأيام هو فعل لازم، بمعنى أنه يخصّني أنا ولا يمتد إليها. ثمّ إن الحياة تدور والأيام تتفتّح كالورد. ونصبر على الغاليين الذين لا يرغبون في أذيّتك ولا يقصّرون معك عنوة ولكن لا يعرفون الحبّ بأكمله. حبّ نص استوا. أو ثلاثة أرباع استوا. لعلّه العمر، ولعلّها التجارب، ولعلّها أيضاً الاختيارات الشخصية. فالحبّ، كغيره من أمور الدنيا، يحتاج إلى أن تضع فيه فكرك. أن تزن الأمور، أن تسأل. أن تتعلم. أن تجرّب. أن تختبر افتراضاتك المسبقة. فإن لم تهتدِ إلى هذا الطريق، ظلّ حبّك ناقصاً، تائهاً عنك وعن نفسه أوّلا. قبل أن يتوه عن الآخرين.
ربما بعد سنة. أو سنتين. أو ثلاث سنوات. ينضج الحبّ ويحلو. وتعود أختاً ثالثة في هذا الأمر وكل أمر. أتذكر عبارةً من إيميل قديم. ” أشجار السرو في غابة. أشجار السرو لا تقف وحيدة”. ونحن في الحبّ كأشجار السرو. نتعمّق ونتجذّر ونصمد للريح والمطر وتهديدات الحطّابين. لا ننوي أن نترك الغابة، ولا ننوي أن نقف وحدنا.