أعيش في الطابق الثاني من بيتنا. ولم أتعلّم قيادة السيارة. وسائقي المفضّل، بل من أشخاصي المفضّلين، قرر العودة إلى بيته وأولاده في منتصف ٢٠١٩.
كل مرة أقرر الخروج من منزلي، تبتلعني الغربة. الغربة عن مدينتي. عن شارع الأمير سلطان والمولات وكل الكافيهات التي لا أعرفها بعد. وبعد سنوات قضيتها خارج المنزل، بين عمل وحوائج تُقضى وجلسات مع صديقات، أشعر أنني لم أعد- كثيراً- أنا. وعدت كثيراً، كثيراً، إلى أنا.
أفتقد رفيقتي. أفتقدها بضرورية. وهي هناك، في تلك البقعة الجغرافية التي أعزّها لأنها هي هي، وأعزّها لأنها موطن الرفيقة الغالية. حقيبة الخروج عندي تتوق أن تجاور حقيبتها، عباءتي تطلب أن تُعلّق بجانب عباءتها. عيوني وهي تراقب الساعة وتتأكد من جاهزيتي للخروج، تسألني متى سنتقاسم الجاهزية وبدلاً من أن تسألني عني، تسألني عنّا.
اليوم الساعة الثالثة والنصف عصراً قررت أن قد حان الوقت لأخرج. عفريت من العفاريت كان يصرّ علي- داخلياً- أن العمل على المشروع انتهى وعليّ أن أرسله للعميل فوراً. والمشروع لم ينته بعد. باقي له تكة أو تكّتين. لا تستعجلني ولا تلعب بعقلي. وفاطمة الهادئة الراكزة السمحة تقول لي: ربما حان الوقت لبعض الستيك، لبعض التسوق، لبعض العودة إلى المنزل بعد يوم طويل لفلفتِ فيه جدة بأكملها وشبعت منك وشبعتِ منها ومن أغنيات الشوارع.
أفكر أي مطعم أختاره للغداء. أفكر هل أذهب لوحدي أم أدعو صديقة لتذهب معي. الذهاب لوحدي هي الخطة الأوتوماتيكية عندي. خصوصاً أن الأمر يتعلّق بفرجة ضوء على شغل أودّ تقديمه. الوحدة تسمح لعقلي بإعادة ترتيب الحقائق بينما تغيب عيناي في أفكار أخرى. لكني وبما يشبه الاشمئزاز أعرضت عن فكرة الذهاب وحيدة. أرسلت لصديقة حضوري معها دائماً يشبه جلوسي بعد يوم طويل في بيجامة مفضّلة أحبها وتحبّني. لم ترد على رسالتي فوراً، فتركت الجوال، وذهبت لأغيّر ملابسي الصباحية استعداداً للخروج. وإن كنت- في قرارة نفسي- أودّ ألّا أستعد. وأن أجد طريقة ما لا أظل فيها في المنزل، ولا أخرج. أود أرى واحد من عفاريتي المعتادة يجرّب أن يخلق هذه المساحة. ولّا بس فالحين في الاقتراحات الخايبة.
وقفت أمام الدولاب واخترت ثوباً رمادياً ارتديته مرة واحدة وكنت أخطط أن المرة القادمة سأرتديه مع عقد حباته لؤلؤية صغيرة للغاية (لابد أن لها اسماً تقنياً ولكني لا أعرفه). خلاص، راح ألبس الثوب اليوم، لكن هل أرتدي العقد الطويل؟ تؤ. لا أريد أن أشعر بأي حمل على رقبتي. كفاية العباية.
بعد أن استعديت، ظللت أذهب وأجيء في البيت بدون هدف واضح. لم أتأكد حتى من أن صديقتي ردّت علي. أقاوم أن أخرج. أقاوم وأقاوم.
ثم، الساعة الخامسة عدت للجوال. لا ردّ. ذهبت للمطبخ، أعددت لي ساندويتش جبنة علب، فنجان شاي. عدت لمكاني المفضّل، ترافقني أغنية متيّم بصوت كرامة مرسال. أرد على صديقتي التي رأت المسج للتو لأنها كانت في المول تبحث عن هدية مناسبة لابنة أخيها وعادت وهي خالية الوفاض، وجائعة كذلك. أقترح عليها أضيّفها من ساندويتش الجبنة، ترد شاكرة وتتشارك مع ابنها الصغير أكل باكت من البسكويت. أكتب عن الدور الثاني، وعن أني لم أتعلم قيادة السيارة، وأن زبير، سائقي المفضّل، عاد ولله الحمد والمنّة على أرزاقه وترتيباته، إلى أهله. قبل أن تأتي كورونا.
مرحبا فاطمة. أعيش في الدور الأرضي. غرفتي بنوافذ كبيرة تطل حكايات جميلة. لكني لم أعد أستمتع بذلك -قد يكون لارتفاع درجة الحرارة علاقة في ذلك- لم أتمكن من القيادة بشكلٍ جيد مازلت أخاف من الشاحنات الكبيرة والشوارع المزدحمة. سافرت أختي بعد أربعة أشهر ملأت فيها بيتنا بالحياة وكل شيء سعيد.استيقظت اليوم -بعد أن نمت أكثر من 12 ساعة- بمزاج متعكر للغاية قررت أن أبحث عن أي مقهى تعج فيه رائحة القهوة وخالٍ من الناس. فكرت كثيرًا في أكثر من مكان ثم تراجعت ورأيت أنه من الأفضل لي أن أقضي هذا الوقت في غرفتي. وأنا أكتب هذه الجملة في الخلفية صوت كرامة مرسال يؤكد الحالة ” أراجع ذكريات أمسي وماضي ما حصل ليّا بعد أن عز لقياهم” بالمناسبة هذي أول مرة أسمعها بصوته.
أمر هذه الفترة بأيام صعبة جدًا. مشتتة وأشعر بفراغ كبير وتمر ساعات أبكي فيها من غير سبب. لا أعرف ماذا أريد وكيف أصل ولا وجهة لدي. أجهز ملابس السباحة وحقيبة النادي ولا أذهب. أتفق مع رفاقي على لقاء ثم أعتذر. آتمنى أن أفعل أي شيء للخروج من هذا المأزق الذي وضعت نفسي فيه. عدت للقراءة بعد غياب. نفضت الغبار عن كتب لم أكملها. وجدت كتاب توقفت في منتصفه في منتصف عام 2019 وقررت أم يكون هو الأول في مهمة الانتهاء من الكتب المركونة على الرف دون انتهاء. لما بدأت فيه تذكرت الأيام التي اقتنيت فيها هذا الكتاب. أروقة الجامعة ورائحة العطر الذي كنت أضعه في تلك الأيام. وملامح الطالبات اللاتي التحقن معي في نفس تلك الدورة ولغة الأستاذة المكسرة. وكثير من الأمور. أحاول وأنا أكتب لك أن أستعيد شيء من ليقاتي في الكتابة والتعبير للرفاق عن الأيام التي يمر بها المرء وهو تائه عن كل شيء حتى نفسه. أحاول أن أكتب أي شيء أن أتحدث أن أبعث رسالة. لقد أسعفتني تدوينتك هذه. جاءت بالوقت المنتاسب.
نسيت أن أخبرك بأني أحب مدينة جدة المدينة التي قضيت فيها حكاية لا يمكن أن يستقطعها أي شيء من عمري. لقد جربت في هذه المدينة وعشت الشعور الأول من كل شيء قد يمر فيه الإنسان. تغربت فيها غربة حقيقية لم تكون سنوات طويلة لكنها كانت فترة كافية أن أعود منها إلى مدينتي بقلب جديد يمكنه أن يواجه أي شيء في هذه الحياة وهو يضحك. في الواقع لم أنس أن أخبرك أنني عشت في مدينة جدة حاولت أن لا أفعل لكن لا أحد يستطيع تجاوز مدينة جدة.
إعجابLiked by 1 person