الليل ساكن. وكأنما هو، حول نقطة الضوء الخافتة التي يحميها الشجر، كائنٌ مترقبٌ يقظ.
وأنا أجلس في وسطها، يحفّني الضوء، وتحفّني أفكاري. في الحوش الأمامي للمنزل، مرصوف بالتيرازو من ألف وأربعمئة وأربعة هجرية. نألفه ويألفنا. ويحبّنا ونحبّه. حفظ لنا الأسرار، وحملنا وقت أن مادت بنا الأرض ودارت بنا أحزان. ظل هو بودّه وألفته، وطابت الأحزان حتى باتت أشباح ابتساماتٍ باهتة.
الأنس سرٌ داخلي. يتفلّت منك إن أردت القبض عليه، فإن دعوته هادئاً مراعياً صبوراً، أتاك على مهل. أتوق إلى أحاديثٍ خضّتها، وذكريات شاركتها، وحكايات طويلة ودافئة ومليئة بالتفاصيل التافهة التي تلقى منّا كل احترامٍ وتقدير.
تحاول أن تتخاطفنا الأنانية. الاستغراق في مرارات الذات ومطالبها. لا تنجح، ولكن الصراعات معها، ألا تترك بعض الخدوش؟ أتساءل. عقدت العزم، في ثلاثيناتي، أن أحمل قلبي على يدي لمن أحبّ. وكنت أظن أن الأمر يتطلّب شجاعة أكاد لا أقوى عليها، أنا التي قضيت حياتي كلها، منذ طفولتي المبكّرة، أحمي قلوبي كلّها خلف المدرّعات من عقل ومنطق. المفاجأة أن الشجاعة لم تكن هي أكبر تحدّيٍ أخوضه. بعد العثرات الأوّلية وجدت بداخلي مساحاتٍ طيّبةً منها. الوضوح الوضوح. هذا أصعب ما أتعامل معه.
أن أكون واضحة في دوافعي. أشتغل على ما أقول وما أفعل كيلا تتسلل إليهما خفايا النفس بدون أن أعي ما يحدث. أن أفكّ التشابكات والشعبكات. أن أبحث عن مخاوفي وأطمئنها. أن أتجاوز الحواجز الزمنية وأمسك بيدي في كل صدماتي السابقة، وأقول لي بأننا عدّينا. أن أضع حدودي وحبّي ودفاعاتي بألوان منفصلة، جنباً إلى جنب، على فلّينة بيضاء وأقول هذا أنا. ولا بأس. هات كل ما لديك أيها الداخل، ودعنا نتعامل معه. ثم دعنا نأخذ خطواتنا القادمة دون أن يكون لدينا مانخفيه عنّا.
هذا كفاح مستمر. ولحظات انتصاري فيه لا تكفّ عن إدهاشي. ياااه. أيمكن أن يأتي من كل هذا التعقيد، كل هذه البساطة، وكل هذا الصفاء؟
ثم إني أحياناً أتراجع. تنزلق بي الأيام، وأدخل في موجة ما من الادّعاء. لكنّي عرفت ما يعنيه أن تعيش أيامك بوضوح، والادعاء بات يغلّفني ببلاستيك خانق، فأخرج بمعونة الله من الشرنقة، لا أطيق البقاء فيها طويلاً.
لدي غداً موعد مهم، أتحرّاه من الأسبوع الماضي. وبناءً على نصيحة صديقة أصغر في مرة سابقة، يُفترض بي أن أذهب إليه وأنا ” على سنجة عشرة”. طيّب ماهي السنجات التي أحتاجها كي نصل للعشرة؟ أتذكّر، ببعض من التمنّي، البلوزة ذات الأكمام المنفوخة التي شاهدتها على عجل في مانجو أول هذا الأسبوع. خطر ببالي شراءها، ثم أعرضت عن الفكرة بحجة أن لدي ما يكفي. صحيح، لدي ما يكفي الحمدلله، لكن لامانع من أن يكون لدي رفيقة جيّدة ولمّاعة تساعدني خلال موعد الغد. للحظة خطر ببالي أن أمرّ الصباح على المول القريب، موعدي الثالثة والنصف عصراً، ولكني رفضت الفكرة تماماً. موعد واحد في اليوم يكفي، لم الهرتلة الزائدة.
الحديث عن موعد الغد واستعداداتي لموعد الغد كسر سحر هذه الأمسية المتخفّية وأنا لازلت أريد البقاء في أعطافها. أنهي كتابة هذه السطور، أنشر التدوينة وأجد في تخيّلي لبعض من يقرأها امتداداً لهذا الأنس والسحر، وأتقوقع مع هذا الليل والضوء والشجر.
أراكم على خير.
لفّتني عباءة الليل ووجدتني في مكانِ قد يكون موازياً لكِ أحدّق في ذاتِ النجمة البعيدة التي حدقتي بها وإنتِ تقفين على أرضيّة التيرازو .يحملني موج هاديء أصبحتُ أحب هذا التهادي البطيء الذي ربما لا يوصلني لشيء،يصلني بريدك اللطيف وأنا أصنع كعكة تقليدية وتخطر عليّ فكرة لم لا أضع قطرات من ريح الموز ! تعبقّ رائحة الكعك ويتبخّر ريح الموز ولا يبقى له أثر في قوامها الهشّ،مش غلط نجرب أشياء لانتيجة لها .
الوقت متأخر ولكني أحتاجُ للقهوة لأقرأ لكِ ولأبدأ في مشروع جديد يوافق العميل بأن أتكفّل به، ليس شيئاً ضخماً ومبلغه لايكاد يغطّي جلسة طلاء الأظافر،لكنّي أحب أن يتدلى لي خيط من سقف غرفتي يمدّ لي يده، إنهضي واطبخي خيالك ولغتك على نارِ هادئة وأرينا شطارة أقزام أفكارك.
أتمنى لكِ التوفيق في موعد الغد،وتذكري حينما تعودين أن تمرّي لتشتري البلوزة ذات الأكمام المنفوخة بعض السعادات الصغيرة لاتستحق أسباباً لتحدث،لنجعلها تحدث وبسّ !
إعجابLiked by 1 person