مشمش بلون الزرع

عندي ابنة خالة، تكبرني بسنوات لا بأس بها. كنت أتطلّع إليها وأنا صغيرة لأرى كل ماهو جميل.

من أكثر لحظات ذكرياتي معها حدّة جلستها متكئة على سور السقالة في ” الكباين”، تعطي ظهرها للبحر، وتحني رأسها انحناءة خفيفة للأسفل وهي تغنّي مع عبد المجيد إنه ماهو صحيح القلب للقلب شاهد.

أتذكّر جيداً المشهد. الشامة في ركن الشفتين. اللون الخوخي المتشمّس. الطرب على أغنية تحمل هذا الشجن. ثم تساؤلي وفضولي حول المتتالية المنطقية التي تطرحها الكلمات. ماهو صحيح القلب للقلب شاهد، لو هو صحيح أصبحتِ مفتون فيني.

وأنا الآن، بعد اجتماع مطوّل تطرّق بشكل مفاجئ لقرارات مصيرية، أستعيد شجن الأغنية ولكنّي أتأمل أيضاً في المرونة السعيدة واللون المشمشي والبال الهني.

بعد سنوات من استثماري، المعنوي قبل المادي، في مشروع مفصلي في حياتي، يبدو لي أنه قد حان الوقت لاتخاذ قرار بما يشبه التخلّي عنه. والرفيق الشريك قد وصل معي إلى نفس القرار وإن كان طريقه قد اختلف. ثم إذا كنّا سنتخلّى، إلى أيّ الوجهات سنتطلّع بعد.

هناك استحالات قانونية تتعلق بالأمر وتدفعنا إلى قرار التخلّي. والقرار ليس مصائبياً والحمدلله، بل يشي بوعود طيّبة وصباحات باردة ومشمسة في نفس الوقت. ولكني أُخذت من نفسي كيف وصلت إلى هنا، مع أن اليوم بدأ عادياً مثله كأي يوم آخر، لم يقل لي اليوم عندما ابتدأ أنه سيصل بي في هذه الليلة إلى هذا الخبر. ما اتفقنا أنني سأواجه احتمالاً لم يكن قائماً ولا مُتخيّلاً حتى ساعاتٍ مضت.

ويعزّ علي والله. خُلقتُ ألوفاً، لو رجعتِ إلى الصبا، لفارقتُ شيبي موجع القلب باكيا.

قبل أسابيع قليلة استغرقت في العمل على مشروع وصل بي بدون أن أعي إلى مذكرات رسام ألماني سويسري. ولفتت انتباهي جملة خارقة. ” لم تُخلق الفكرة إلا ومعها ضدّها. ثنائيٌ بات جسداً واحداً”. والعبارة- بسياقاتها المختلفة التي لن أذكرها هنا- ظلّت معي تشرح لي كثيراً من مواقفي تجاه الأمور.

لست متشائمة. ولكني أيضاً لست متفائلة. التفاؤل يقتضي مني الإيمان البريء بأن الأمور ستصبح أفضل، حتى ولو تطلّب مني هذا الإيمان غضّ النظر عن وقائع معينة تقول باحتمالية أن الأمور لن تصبح أفضل. وأنا دائماً أفضّل التعامل مع الأمور بعيون مفتوحة على آخرها. طيب بين معسكر المتشائمين والمتفائلين. أين معسكري؟

معسكري في الجاهزية الذاتية، في أن ميزاني الشخصي يقوده التعامل مع الأقطاب المختلفة، التحدّيات الجمّة والفرص الوفيرة، في نفس الوقت. لا الفرصة تنسيني التحدّي، والتحدّي يغيّب عن عيني الفرصة. ثنائية باتت جسداً واحداً.

لهذا وبينما الشجن يغمرني لأن الأرض العزيزة التي وضعت فيها جذور من جذوري حان وقت الرحيل عنها، أرفع رأسي إلى السماء، أشعر بأشعة الشمس والهواء البارد يضرب وجهي. أرى حقولاً قادمة ستكتسب معزّاتٍ جديدة ووليدة في قلبي. أحزن وأحنّ، أتساءل وأثق، أتوكّل وأنوي المُقام والزرع.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s