زيارة في منتصف القلب

أتذكر أنني في أحد صباحات ٢٠١١ ودّعت والدتي وأختي الكبرى الذاهبتين للحج، وظللت في فراندة البيت الداخلية، أستند بظهري على الجدار، وأشاهد الأمطار وأسمع صوتها، أمطار جدة التي أصبحت شهيرة بشدّتها تلك السنة، وأحتضن كتابي العريض الذي يتحدث عن التصميم التحريري وترتيب الأفكار بصرياً على صفحات المجلات.

تلك لحظات لا أنساها، لا لشيء عدا أنني كنت فيها قريبة من جوهري بدون أن أضع يدي على ماهية هذا الجوهر.

اليوم بدأت أضع التفصيلة الأوّلية لمستند أعمل عليه. صفحة بيضاء مستطيلة بالطول. والخط أسود مودرن. عملت عليها من الظهر للعصر. ثم تركت الكمبيوتر مفتوحاً بينما أغلقت الشاشة كي لا توترني إشعاعاتها. على أمل أن أعود إلى المستند بعد المغرب، بعد العشاء.. ربما.

العادة لا أحب أن تمتد يد العمل لتمس مسائي. وهذا مساء الخميس. لكن شيئاً ما، كان مُلحّاً، قال لي أنني لم أنته بعد من النظر.

أعاني من بعض السخونة. رأسي ثقيل. الزكام واقف على عتبة بابي. دور برد، لا كوڤيد والحمدلله. مع ذلك أنهيت انشغالاتي مع الأسرة، ارتديت بيجامتي في وقت مبكر من الليلة، وبدلاً من أتجه إلى الكنبة لأستلقي ذهبت للمكتب مرة أخرى.

قررت أنني أريد صحبة ألبوم محمد حماقي بينما أعمل على المستند. تقول لي حاسبة الألبوم أنه ساعة كاملة، لكن الوقت مرّ علي كعشر دقائق. عقلي يهمهم راضياً بما أفعل. أضع الترتيبة الفلانية هنا. أحذف المقطع العلّاني من هناك. أكتب أشياءً تدوّخني، ليس بالضرورة ستدير رأس العميل، لكنها تدير رأسي أنا.

ثم بعد أن أنهيت العمل لهذه الليلة، حفظت المستند. توقفت لثوانٍ أتأمل في الصفحة البيضاء التي امتلأت بالسطور السوداء، جداول وأعمدة. ثم أغلقت المستند. وأغلقت الكمبيوتر. وعدت لطاولتي.

أعني. لكنبتي.

أشاهد الحلقة الأولى من مسلسل أوصتني به ليال. لكن هناك شيء ما لا يتزن في ميزان عقلي. أميّله يمنةً ويسرة عله يجد النسق. توقفت للحظات بينما تخطر ببالي أغنية جوني ميتشل ” لاست تشانس لوست”. وهي على حزنها، وعلى معناها الحرفي الذي يتحدث عن النهايات، تشعرني بانتعاش البدايات التي ترحّب بالتوقّعات بل ويشتدّ عودها بها.

ثمّ فكّرت. أن المستند الأبيض بسطوره السوداء، يشبهني. ويشبه عودتي إلى منزل حميم ودود ولا أشعر فيه بالغربة.

ونعم. شعوري يتعلّق بالعمل. وأيضاً. لا يتعلّق بالعمل.

لستُ على الفراندة أشاهد المطر من بين قضبانها المذهّبة. لا أشعر بالرخام البارد بباطن يدي. لا أحتضن كتابي. ولست الفتاة المحتدّة المعتدّة التي كانت. لكنني أيضاً، اليوم، التقيت بعزيزٍ على القلب والروح بعد غياب، وربما بعض الضياع. اقتربت من جوهري، وأنا ممتنّة لهذا القرب. مجرّد القرب المؤقت بدون أي شيء آخر يتجاوزه لما هو أبعد.

ليلة طيّبة.

فكرة واحدة بشأن "زيارة في منتصف القلب"

  1. مرحبا فاطمة.. قرأت تدوينك هذه وأنا على سريري أفكر في في العمل، إنها الليلة الأخيرة من عطلة منتصف الفصل الدراسي الثاني. تعرفين بأني أعمل معلمة أعلم الأطفال الأبجدية وإلقاء القصائد والغناء والقفز أحيانًا، ومؤخرًا بدأت أغوص معهم في بعض الرياضات والفنون، ففي صفٍ نشكل معًا آنية من الخزف. وفي صفٍ آخر ننسج ألعاب من الخيوط ونطبع بعض الأشكال على ملابسنا القديمة.. أما في حصة الرياضة فالقفز والركض في المقدمة دائمًا قبل وبعد كل شيء. الأمر يشبه المواصلة والتجاوز خارج غرفة الصف وأسوار المدرسة. (التجاوز والمواصلة على كل حال.) قاعدتي الذهبية.
    قضيت عطلة حنونة تناولت فيها عددًا لا متناهٍ من أكواب القهوة الدافئة برفقة أختي؛ وأعتقد بأن هذا سببًا كافيًا لتكون هذه العطلة دافئة رغم انخفاض درجة الحرارة في كل لياليها. قطعنا مسافات من الحكايات المخبئة والشكاوي المؤجلة والضحكات الصاخبة. اكتشفنا حديقة خلف أحد المقاهي المكتظة بالزوار فكانت بمثابة عِلية سرية نأخذ معنا قهوتنا ونذهب إليها لنفترش أرضها بالحكايات التي قد تقطعها كلمة (ماااااماااا) كنداء إنذار من عُمَر الطفل المشاكس الذي ملأ قلبي بالبهجة والتنازلات السريعة.

    في هذه العطلة كان الحضور الأقوى فيها للغزلان والسوشي والأرز بالعدس. فقد كانت أغلب أيامها ماطرة وحسب العادات الحجازية فالأيام الماطرة الباردة لابد لرائحة الأرز مع العدس أن تفوح في منزلنا في أغلب الأيام وبالرغم من ذلك فلم أتناوله إلا مرة واحدة. وبالمقابل فقد تناولت أطباق عديدة من السوشي مع الرفاق المقربين. وبما أن الشيء بالشيء يذكر فقد جرب أبناء أختي استخدام أعواد الطعام الياباني لأول مرة، ولكن الأمر تجاوز التجربة للفرض عين فلم تمد مائدة طعام أمامهم إلا وقفزوا لإحضارها ومحاولة تناول الطعام بها حتى مع الأرز بالعدس تخيلي! أما الغزال فقد كانت صديقتي تبحث طوال أيام رحلتها الأخيرة التي قضتها بين المالديف ودبي عن غزال تقدمه لي كتذكار أعلقه في سيارتي.

    أجهز هذه الأيام للعودة حضوريًا. اقتنيت كنزة رائعة جدًا تركض عليها الغزلان بالطول والعرض وتقفز. وحذاء بألوان سعيدة وجوارب كثيرة وتنورة واحدة وأقلام سبورة. كما أني أجهز قلبي لأيام سعيدة وأحضان صغيرة مشاكسة وعبارات لطيفة. أشتاق حقًا للعودة، في معنى (إعادة تشغيل للحياة الحلوة) أشتاق للطريق الطويل إلى مقر العمل، للفناء الكبير ولشجرة الحناء الوحيدة فيه، والشمس التي تغطي كل بقعة منه ولمكتبي الذي يقع في زاوية الغرفة التي تقع في زاوية هذا الفناء.

    Liked by 1 person

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s