حيثُ لا أحدٌ ينادي

أحتفظ، على قرص صلب، بأغنية لأبوبكر سالم بلفقيه من كلمات حسين حامد المحضار. رحمهما الله.

الأغنية المسجّلة لم يغنّها أبوبكر، بل هي من أداء مغنٍ ربما لم تسمع به، اسمه ” عمر با وزير” رحمه الله.

أتذكر، قبل سنوات طويلة، أنني عرفته من أغنية مستفزّة شاعت بين الناس عن زوج الاثنتين. وكنّا نتعامل- في محيطي في السعودية- على أنه أشبه بموسيقي كوميدي، أداؤه طريف، لكن لا يحمل قيمة فنّية عالية. ثم غاب عن ذاكرتي. قبل فترة قصيرة اقترح علي اليوتيوب مشاهدة فيديو له. وأثار الاقتراح فضولي فشاهدته.

توقفت عند هذه الجلسة الموسيقية كثيراً. لدرجة أن أحمّلها على القرص الصلب.. من ناحية خوفاً عليها من الضياع (هي فعلاً لم تعد متوفّرة على اليوتيوب)، ومن ناحية ثانية لأنها تطرح في عقلي أسئلة لم أكن مستعدة للإجابة عليها بعد.

الجلسة في غرفة من غرف الاستراحات ربما. تبدو مكيّفة، لا أرى أحداً من التخت الموسيقي يعاني من الحر، باستثناء عمر باوزير الذي تلمع على جبهته حبيبات عرق كثيفة. تتناقض بشكل صارخ مع ابتسامته وراحته في الغناء. في كل مرة أشاهده أبحث في تعابير وجهه ولغة جسده عن ضيقه بالحر، لكنه يبدو “فرحاً” فرح خالص بوجوده في مكانه.

خامة صوته وطريقته في الغناء تنحى بشكل واضح منحى بلفقيه رحمه الله. ولكنك إن نظرت جيداً، بعيداً عن المظهر المزخرف لأبوبكر مصغّر، ستجد تمكّناً من الغناء لا علاقة له بالتقليد. بالإضافة إلى ظهور كارزماتي لم يتبلور، ولكنه موجود.

وهذه المشكلة. أن الأشياء لم تتبلور مع عمر باوزير. لم يتبلور فنّه، لم تتبلور رحلته الموسيقية، لم تتبلور بصمته التي تضعه في مصاف عظماء يقول لي حدسي أنه يستحق أن يكون منهم.

أشعر بقليل من الذنب وأنا أطلق هذه الأحكام. لا أعرف عن قصة الرجل ولا تاريخه شيئاً. ولكني أجد مبرراً في أنه شخصية عامة يمكننا التعامل مع ما يظهر لنا من مسيرته للإجابة على أسئلة العملية الإبداعية.

ما أظنه أن عمر باوزير لم يجد طريقه المختلف، كما وجد الأسطورة أبوبكر طريقه، لأن عمر باوزير لم يكن لديه حسين المحضار الخاص به.

الرفقة التي تبلورك. وتتبلور هي ببلورتها لك.

الرفقة التي تلتقط من أنت، خلاصتك الخام، وتقول لك تعال نودّيها هنا، ونروح فيها هناك. تعال نحميها من هالبحر، وتعال نرميها في هالمحيط. الرفقة التي لا تشعر بالتهديد من فنّك، بل ترى ما تفعله مكملاً وممكّناً لها.

البنية التحتيّة الإبداعية التي تتمثل في شلّة من اثنين. أو ثلاثة. أو خمسة. تتحدث معها عن رغبتك في كذا، فيصرفوك عنه ويقنعوك بكذا. تتشكك في قدرتك على عمل كذا، فيضربوا بشكوكك عرض الحائط لأن إيمانهم بقدراتك لا يحتمل مجرد التساؤل من ناحية، ومن ناحية ثانية، هم لا يتعاملون مع الفكرة الإبداعية، أياً كانت، على أنها هيئة مقدّسة لا تُمسّ، بل هي أشبه بغزل البنات، يُنسج ويؤكل ويُلوّن. فما المشكلة إن لم تكن كفؤاً لها هذه المرة؟ الموضوع مش مستاهل هالتخوّف والتردد. أقدم وجرّب ومزّق ولصّق.. كلّنا لها يا سيدي.

ولا أتحدث هنا عن الدعم المعنوي كأصل البلورة. لا. بل هو العملية التبادلية المشتركة لبناء إنتاج إبداعي مختلف. تقديم تفاسير- معانٍ مختلفة- لما يبدو أنه قد اتُفق على شكله وصيغته ولم يعد هناك مساحة للتجديد فيه. البذور الأولى لما سيسِمْه المؤرخون، في وقت لاحق، بالمدرسة الفنّية الفلانية، أو المدرسة الأدبية/ الغذائية/ العلمية/ الهندسية/ التصميمية/ اليوزرإكسبيرينسية العلّانية.

لم أقرأ كتاب “ الدوائر التعاونيّة” الذي يتعامل مع نفس هذه الفكرة كاملاً بعد. أتصفحه من وقت لآخر ولازلت أنوي- يوماً ما- أن أدرسه. لكنه يضع أسساً بحثياً للبلورة التي أتحدّث عنها. يقول أنها تأتي من جماعة يتشاركون نفس الرؤية ويتواجدون- جغرافياً أو مجازياً- حول مركز ثقافي معيّن. وإنتاج هذه الجماعة تمكّنه ثلاث اشتراطات: الحوار الدائم بين أشخاصها، الثقة المتبادلة كلٌ في إمكانيات وإبداع صاحبه، والإحساس الطاغي بأن لديها مهمّة في هذا العالم لتنفض عنها غبار الشك والمشاغل والكسل.

في حال بلفقيه والمحضار، رحمهما الله، أتوقّع أن الرؤية أتت من الوجود الحيّ الذي ينبض بداخلهما للفنّ والإرث الموسيقي الأدبي اليمني. وكأنما يحملان في محفظتهما كل العمالقة الذين سبقوهم لصناعة القصّة الموسيقية اليمنية، وعلى عاتقهما- والله أعلم- مسؤولية وأمانة ومتعة وشرف إكمال المسيرة. أما التواجد الجغرافي المجازي حول مركز ثقافي واحد، فهو بلاشك كان الطريق، ذهاباً وإياباً، بين بساتين السعودية واليمن السعيد.

يحكي لي والدي عن بدوي زاره مسافرون وزوجته غائبة عن البيت. فذبح لهم وطبخ وأكرمهم بعشاء فاخر حسب الأصول، فلما سأله أحدهم عمّا طبخه، أو ربما هو من اهتزّت حميّته لا أعرف بالضبط، أجاب بقصيدة من عدّة أبيات يسجّل فيها القصة، وختمها بشطر بيت لم يغب عنّي منذ أن سمعته، مع إنه يعني كعادة الشعراء/ الرجال، اكسترا. قال: ” قدّني مرة عمري ورجّالها”. يعني أنه قام بدور الزوجة والزوج معاً، في استقلاليته وقدرته على الاستغناء!

قد يكون صاحب الحرفة ” امرأة عمره ورجّالها”، ولا يعيق إبداعه خلو الطريق من رفقة تشاركه، أو ربما هو بتفضيله الشخصي يحتاج إلى أن يمضي في طريقه وحيداً. لا بأس. لكن إن استطعت، استثمر في بنيتك الإبداعية. استثمار بخطوات مقصودة، تستكشف أنواع الرفقات حتى تجد ما يناسبها. في النهاية الأمر كله توفيق من الله، لكن انتباهك الواعي لهذه الإمكانية، إمكانية أن تبني بنفسك مدرستك الإبداعية الخاصة بك، يسمح لك بأن تفتح الأبواب أمامها وتستدعيها لطريقك.


* عنوان التدوينة من قصيدة لمريد البرغوثي رحمه الله بعنوان “ لي قاربٌ في البحر

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s