لا أحبّ الشعر

لا أحب الشعر.

أحب قصائد لإيليا أبي ماضي وزياد آل الشيخ. أحب قصائد لمريد البرغوثي، قصيدة أو اثنتين، وبعضاً من أبيات المتنبي وقصيدته المشهورة في رثاء أخت سيف الدولة الحمداني. ومؤخراً راقت لي صحبة عمر بن أبي ربيعة خصوصاً في ” ليت هنداً أنجزتنا ما تعِد”.

قراءة الشعر ليست من هواياتي، لست مهتمة بالمجال بأكمله، ولا بالفعل نفسه/ قراءة الشعر/ بل باشتراطات موضوعية، معانٍ تهمّني في هذه القصائد القليلة، أو ظرفية، بمعنى أن هذه القصائد قد ارتبطت كلماتها بتاريخي الشخصي وذكرياتي.

الفعل/ قراءة الشعر/ ميسّر لهذه الاشتراطات. لا أبغيه لذاته ولا يحمل أدنى متعة عندما لا ترافقه.

على صعيد آخر، تحدّث عن التاريخ، أي تاريخ، ستجد منّي أذناً صاغية، وعينان مفتوحتان على آخرهما دهشةً مما لا يُدهش.

أحب التاريخ لذاته لا لتيسيره لاشتراطاته. ممرات عقلي تضيء، واحداً تلو الآخر، عندما يمر أمامي سياق تاريخي من أي نوع. البيزنطيون؟ ✅ البطالمة؟ ✅ النبطيون؟ ✅ الأمويون؟ ✅ الدولة السعودية الأولى والثانية والثالثة؟ ✅✅✅

علاقتي بالشعر علاقة نقاوة. علاقتي بالتاريخ علاقة غواية.

التفريق بين منحى اهتمامك بأمر ما، ضمن رحلتك الإبداعية، يسمح لك بتحديد علاقتك معه. عندما تكون علاقتك علاقة ” نقاوة”، تنقّي قصيدة أعجبتك وتغوص معها عمودياً في محاولة لفكّ معانيها المختلفة وعلاقتها بك. أما علاقة ” الغواية” فتعني الامتداد الأفقي، تتنقل بين قصيدة لأخرى ومن شاعر لآخر ومن زمن لزمن. من كل أحد تأخد ما يكفيك مؤقتاً لتنتقل إلى آخر. تحيط بالمجال. لا تنتقي منه.

خذ عندك، مثلاً، الكاتب البريطاني كِن فولِت. الرجل كان صحفياً شاباً يكتب روايات جريمة لا بأس بها. واحدة من رواياتي المفضّلة كتبها عن جاسوس ألماني في الحرب العالمية الثانية بعنوان ” عين الإبرة“. المشكلة التي واجهته أثناء كتابة رواياته هو أن قدرته على وصف المكان/ المدينة/ التي تجري فيها الرواية كانت محدودة. لم يسبق له الاهتمام بما حوله من معالم، ووصف المكان- تحديداً في روايات الجريمة- هو جزء أساسي من صناعة جو التشويق لدى القارئ. الحل؟ ابتاع كتاباً كلاسيكياً عن عمارة المدن في أوروبا ليصبح قادراً على الكتابة عن المكان. صدفت، أن الكاتب ( نيكولاس پڤسنز) وهو ناقد معماري مشهور، كان لديه هوس خاص بالكنائس التاريخية. وصدفت، حقاً صدفت، أن هذا الهوس لاقى استجابةً خاصة لدى فولِت.

خلال السنوات القليلة التي تلت قراءته للكتاب، زار فولت أغلب الكنائس التاريخية المعروفة في بريطانيا وخارجها. وفاجئ ناشره، في يومٍ ما، أن كتابه القادم سيكون عن بناء كنيسة في القرن الخامس عشر للميلاد. من روايات الجريمة، للرواية التاريخية المعمارية.

حكاية الرواية مثيرة للغاية، نشر الرواية، الرواية نفسها، وتلقّي الجماهير لها. لكن الأساس أن ولادة الرواية أتت لأن نيكولاس پڤسنر كان غاوياً للعمارة. كن فولت كان نقّاي لعمارة الكنائس فحسب. ومنتجهما الإبداعي، بالتالي، اختلف بشكل جذري بناءً على علاقتهما بالمجال.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s