عن الأميال التي قطعها كل الناس. ونحن أخيراً أتينا وقطعناها.
قطعوها في الطفولة. قطعوها في المراهقة والصبا. ونحن احترنا معها. ليست تبدو بعيدة فحسب. ولم يكن كسلاً منّا أو قلة حيلة. ولكنها كانت معضلات عقلية لم يُفتح بابها لنا.
لابأس. نذكّر أنفسنا بالصبر، مصير اللي دقّ الباب يسمع الجواب. أو هكذا يقول المثل اللمّيع الذي يشرح لي كثيراً من الأمور.
قطعت منها ميلاً اليوم. لا، لن أخبر هذه التدوينة بسرّي. لن أعرّضه للحكم، لوزنية ما إن كان يستحق التجاوز أم لا. لكني في هذا الليل، والحمّى تستبدّ بجبهتي، أفكّر في لطف الله. وفي أن هذا الميل قد قُطع.
أفتح نافذة الكلمات، وأتحدث مع العزيزة الغالية عن أشياء تافهة بينما أنتظر، كعادتي في كل مرة، معجزةً ما تنقل حبّات الفيفادول من مكانها على الكومودينو إلى معدتي دون أن تمرّ على حلقي.
أرسلت في النافذة أحاديث متناثرة. وصوراً التقطتها خصيصاً لتراها العين الغالية، وأنا عادةً لا ألتقط الصور. وقضيت وقتاً لا بأس به أتخيّر أي صورٍ تلك أشاركها إياها. هناك صور لوجوه غالية عليّ. لكني أرفق بهذه النافذة الليلية أن تحمل كل هذا الحب المحموم الذي أشعر به. ويأتي الصباح و.. ” يبخّ” الحب في وجه من أحبّ وهي لازالت تقول صباح الله خير. لا وجوه إذن. أشياء مسلّية، مؤنسة، من زيارات وتسوّق، بدون أن تحمل أعباءً عاطفية تنزع النوافذ- يحفظها لي ربنا- من أماكنها.
لو قلت لنفسي قبل خمس سنوات من الآن أنني سأكتب حديثاً كهذا وبهذه اللغة، لضحكت متهكّمة على الفكرة المستحيلة. لكني أحب هذا اللين. اليوم أنا أحبّه. وأحب اللامبالاة التي ترافقني وأنا أمارسه. وأحب أن أتفاجئ، وأحبّني أكثر، وأقترب منّي أنا، بينما أطفو في أمواجه الهادئة كوسط محيط في ظهيرة مشمسة.
آه. شربت الفيفادول. بسيطة والحمدلله. حديثي عن الحمّى هنا هو حديث رفقة لا حديث إخبار وتوجّع. حالة من الـ” شفتِ كيف؟!” لا من الـ” أحب أن تتحمّدي لي بالسلامة”.
عندي نصف برتقالة، كانت برتقالة، على الكومودينو. أفكّر أنني سألجأ لها إن شاء الله عندما يحين الموعد التالي للمسكّن. قبل شهور قالت دعاء شيئاً عن الحلا، أو ربما الشوكولاتة؟ لا أتذكّر للأسف. المودموزايل التي أحياناً تبدو لي أنها تنتمي إلى مصر الأربعينيات والخمسينيات تمسح تغريداتها أولاً بأول. وتلك المرة بالذات عطّلت الحساب بأكمله. المهم الحديث كان عن الدنيا التي لم تعط فلاناً شيئاً من الحلو. البرتقال عندي له ذكرى من سنوات طويلة. عندما شعرت بذلك الحزن الذي ينتصف القلب. ثم أنه كان متوقّعاً مني آكل برتقال. أكلت قطعتين، والقطعة مرّت من حلقي بالكاد. والدنيا ” ما قدّمت لي حلوى.”
وهذه الأيام مرت. وصارت سنوات. وموضوع الحزن ذاته – كما يقول الكوريون- لم يعد بالأمر الجلل. كنتشانا. بل أن الدنيا، ولله الحمد والمنّة، قدمت لي من العطايا والحلويات ما تنوء به خزائن حمدي. لكني لازلت أتذكر تلك اللحظة. التي كان متوقّعاً مني فيها آكل برتقال. وأكلت قطعتين. والقطعة مرّت من حلقي بالكاد.
وايش كنّا نقول؟
كنا نقول عن الأميال التي نقطعها ببطء السلحفاة. أو في صورة أدق تتقاطع وتتوازى مع الصورة الأولى نفسها: نقف على عتبتها كأرانب لم يؤذن لها بالانطلاق. وننتظر لسنوات وسنوات. ونرى أرانب مثلنا تقطعها بسرعة الصاروخ. ونحن، لو يؤذن لنا بس، سنفعل مثلهم. ثم في لحظة ما، يقول ربك كن فيكون. ويصبح انتظارنا أمراً من الماضي.
تصبحون على خير.
جميلة يختي فاطمة.. عساكِ توصلي للخير والبركة دايما ويهديكِ الصراط المستقيم
إعجابLiked by 1 person
شكراً لك، الله يكرم أصلك ويهدينا جميعاً ♥️⭐️
إعجابLiked by 1 person