إيشارب في الذاكرة

بدأت هذا الأسبوع وأنا أعرف أنه سيكون مزحوماً بالتزامات العمل، وبمطالبات لإنتاج عقلي في وقت قصير. وعقلي عادةً يحب أن ينتج على مهله. يقلّب الأمور، يتركها تختمر.

الثلاثاء الماضي كان عندي اجتماع مرهق من هذا النوع، نوع الإنتاجات العقلية الكثيفة. انتهيت من الاجتماع وبدلاً من بدء العمل مباشرة، قررت أن أستجيب لفكرة لم أكن مرحبة بها، وهي أن أقضي الليلة بدون تخطيط مع الصديقات.

كلمت الصديقة الأولى وأنا أدفع نفسي دفعاً لذلك. ردها كان بالإيجاب، ولكنه إيجاب متكاسل يتمنى لو أنه يقضي وقته مسترخياً على الكنبة. في السيارة كلمتني صديقة أخرى تسألني عما أفعل. قلت أنني في السيارة متجهة إلى مطعم ما. قالت: تمريني؟ قلت: أمرّك.

التقينا بصديقة رابعة في المطعم، وقضينا سهرة لطيفة جداً. جداً. وبالرغم من أنني قضيت النهار كله في الاجتماع إياه، والعادة أن أحتاج لوقت لوحدي كي أشحن طاقتي، قبل حتى أن أقابل من أحبّ، إلا أنني في تلك المرة كنت مسترخية والخزّان يتعبّى بدون مجهود.

برنيه براون تفرّق بين المشاركة والفضفضة، وبين إغراق الآخر بفيضانات الأعباء العاطفية وكأن بوابات طوفان انفتحت، بدون سبب بنّاء عدا الرغبة في تأكّد صاحب الحديث من أنه محبوب، مدعوم، له أهمية. المشكلة أن الإغراق العاطفي هو نمط قد لا ينتبه إليه المرء. قد يخوض فيه لاستغراقه في حياته، ربما لأنانيته.

أعرف مليّاً أنني وقعت بشكل أو بآخر في هذا الخطأ في مرحلة من مراحل حياتي. وكلما أتذكر الإرهاق الذي سببته لصديقتي العزيزة، وهي تتعامل مع حكاياتي وكأنها هي محور الكون، وكأني أنا محور الكون، أشعر بالأسف. أفكر بالأمر الآن على أنه موازنة حتمية تستحق النظر والمراجعة، هي من أولويّات المرؤة وأخلاق الكرام.

الجو في عشاء الثلاثاء كان فيه انسجام بين طاقاتنا. ليس هناك أولويات أو أزمات أو رغبة من طرف في الاستيلاء على مقاليد الحديق. مجموعة من السيدات اجتمعن بما يشبه الصدفة بعد يوم عمل مرهق، والحب الهادئ دفعهن للقاء. ولولا الحب لكانت الكنبة في البيت هي الرفيق المثالي.

هذا الأسبوع اجتماع الجمعة حكايته غالية، أود أن أحتفظ بدفئها لنفسي. السبت قضيته في مشوار قصير مع صديقة العمر التي قررت أنها تحتاج لمجموعة من البناجر. تحيا البناجر. وابن الخالة- خالتها هي- يتاجر في الذهب ونصحها بالشراء السبت لأن على ما يبدو انخفض سعر الذهب في تلك الأيام.

رحنا واشترينا ذهب. لم أبتع شيئاً، اشترت هي ماتحتاجه، وكان مشوار قصير ولمّيع وصحبة هانئة. وبالرغم- مرة أخرى- من ازدحام الجدول اجتماعياً، إلا أن الخزّان يمتلئ بدون إدارة واعية من ناحيتي.

أتى الأحد وأنا مرتاحة ولله الحمد. ذهناً وعاطفةً وجسداً. مع ذلك رغبت عن الاستيقاظ المبكر. ربما لأنني كنت أخشى على بتلات الورد من ضغط العمل. ولما بدأت سارت الأمور بشكل معقول.

في آخر النهار أُلهمت أن أطهو شوربة. بدون سياق وبدون حاجة. خطر ببالي أن الأيام القادمة ستتطلب مني إدارة حكيمة لوقتي، وأن وجود “حساء” طيّب في الثلاجة ينتظر مني تسخينه هو فكرة جيدة.

أكتب هذه التدوينة وأنا أحتسي الشوربة لليوم الثاني، بدلاً من وجبة غداء كاملة. لا أميل لها. أشاهد الفلوچ الجديد لچو جود ويلفتني حديثها عن صديقة لها بأنها ” وفيّة”. وأن هذه الصديقة ستجري حديثاً في وقت مبكر من نهار السبت يتطلب من چو أن تخرج من بيتها في السابعة والنصف صباحاً، لكنها ستفعل ذلك عن طيب خاطر، ففلانة لطالما كانت مخلصةً لها.

ألاحظ أن هذا النمط، نمط الوفاء والإخلاص، يتكرر في حديث چو عن معارفها. وأتساءل عمّا إن كانت هذه إضاءة معيّنة تناسب عقلها وطريقتها في تصنيف الناس، ولّا أن الفكرة نفسها تكتسب أهمّية كلما تقدّمنا في العمر، وأن مع العمر لفتات الوفاء تصبح تجديداً لعهود صداقة لا يجددها شيء آخر.

لا أعرف. صحيح أنني لا أفكر في معارفي وأصحابي بنفس الطريقة. أتساءل كيف يفكرون هم فيني، خصوصاً ممن يُعلون هذه القيمة، قيمة الوفاء والإخلاص والولاء وتعبيراتها المادّية، في علاقاتهم. من ذكرياتي التي لا أنساها في الجامعة طالبة هي أكثر بكثير من زميلة، لكنها لم تكن صديقة بالضبط. خلينا نقول رفيقة. في يوم ما أتت ومعها مجموعة من الإيشاربات للبيع. وعرضتها علينا. الرفيقة كانت عقلانية، مباشرة، مرتبة، قوّتها حلوة وفاتنة. ولما عرضت الإيشاربات لم يخطر ببالي الشراء. لم يخطر ببالي أن الشراء فعل عاطفي في ذلك الوقت. شفت المنتج، لم يناسبني. لم أشتره.

بعدها بشهور كنت في مشوار معها ضمن مشاوير الجامعة. مؤتمر أو رحلة. وكنت أرتدي زياً بإيشارب. مدّت يدها وشدّت طرفه، وبعينين صافيتين مافيهم لوم، قالت لي: اشتريتِ ايشارب من كذا (براند الإيشارب الظاهر في الطرف)، لو كنتِ كمان اشتريتِ من عندي.

ربما هذا النوع من الوفاء التي تتحدث عنه چو جود، ويفلت من يدي ملاحظته. أود، إن شاء الله، أن أوجّه الدفّة إليه، وأن ألاحظ وألتفت وأنتبه. يناسبني أن أكون وفيّة لمن أحب. يناسبني أن يكون الولاء مرادفة جديدة في قاموس محبّتي.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s