أسود مثل الباذنجان

كنت في مرحلة ما المحرر المسؤول عن إدارة مجموعة من المقالات لموقع جهة ما. وزعت المواضيع على الكتّاب على أساس كل أسبوع تصلني مقالتين. في أسبوع اعتذرت كاتبة لظرف أصابها، ولما جربت أن أكلف بقية الكتاب الكل اعتذر لضيق الوقت.

المقالة كانت عرضاً لكتاب عن ريادة الأعمال. بحثت في ذاكرتي عن كاتب ملائم للمهمة وتذكرت فلان. مشكلتي مع فلان أن خط أفكاره لا يمكن التنبوء به. قد يقودك في مقالة إلى مجموعة من الخلاصات المسلّية المفيدة، وقد يدخلك في مقالة أخرى لعشوائيات عقلك معها يضرب كفاً بكف ويقول لا حول ولا قوة إلا بالله، ياعرب يامسلمين.

في النهاية لم يكن لدي خيار سوى أن أكتبها بنفسي أو أجرب سؤاله. وفضّلت الخيار الثاني. اتضح أنه قد قرأ الكتاب مسبقاً، ولامانع لديه من أن يزوره مرة أخرى ويكتب المقالة في الوقت القصير المتاح.

ووصلتني المقالة، واتضح لي منذ اللحظة الأولى أنها من العشوائيات المذهلة في عبثيّتها. أمرنا لله. أعدت تحريرها قدر ما أستطيع دون المساس بنزاهة كلمات الكاتب. وسلمتها للعميل.

المفاجأة- بقى- أن هذه المقالة، دوناً عن كل المقالات الأخرى، قد دفعت مسؤول المشروع إلى الاتصال بي هاتفياً ليثني عليها. مقالة ممتازة. يقول. مقالة ممتعة. يقول. مقالة أفكارها بالضبط هي مانريد. يقول. أرسلتها للمدير كي يطلع عليها قبل الكل. يقول.

هذي الحكاية حدثت قبل سنوات. لكنّي أسترجعها دائماً عندما أريد أن أتذكر أن رأيي، كما تقول الكلمة، هو (رأي). صحيح تقوده الخبرة والتجربة ومجموعة من المعارف اكتسبتها على الطريق، لكنه: ١- ليس من الضرورة أن يكون هو الصح الوحيد و ٢- لو كان هو الصح، صحّته لا تضمن نفعه. هناك رأي آخر قد لا يكون الأصوب، لكنه الأنفع.

على مدار سبعة شهور وصلتني مقالات ممتازة. مسلّية. هيكلها لا غبار عليه. بحثية. لم يجد أياً منها القبول مثلما وجدته تلك المقالة العشوائية. تيك ذات سيّدة فاطمة.

قبل فترة بدأت في مشاهدة المسلسلات التركية. انضميّت إلى جمهورها متأخرة كثيراً، ولم يكن السبب هو أنني لم أرغب في مشاهدتها قبلاً. بالعكس. لكني كلما جربت مشاهدة مسلسل منها لم يرق لي على الإطلاق. المهم، في نهاية الأمر وجدت المسلسل المسلّي كفاية كي أتابعه. ومن ضمن أبطال المسلسل شخصية مليونيرية مستفزّة (يجيب على حديث النساء في حياته بـ اشششششش). المليونير، خالد، أنيق. لكن أناقته مُشكلة. بِدله ممتازة في خياطتها ومناسبتها له، لكن بدلاً من بدلة سوداء، يرتدي بدلة من الموڤ الغامق. صحيح أغمق درجات الموڤ لدرجة أنك من الممكن أن تخطئ وتظنّه أسود. لكن يظل موڤ. في بداية الحلقات كنت أشاهد بدله وأنزعج. ما الذي يمنع أن تكتمل أناقته بألوان كلاسيكية، أسود، كحلي، كاكي. ليش الموڤ والأخضر؟

في نفس الوقت كنت أتعامل في مع مواضيع تتعلّق بمدارس التصميم المختلفة. فجأة ربطت هذا بذاك. الكلاسيكية، في مدارس التصميم، ليست كلاسيكية مطلقة. هي سمة تُطلق على مجموعة من الخيارات/ الأعمال/ الفنّية التي قرر الناس على مدار سنوات طويلة، بأنها ذات قيمة. الكلاسيكية السعودية، مثلاً، تختلف عن الكلاسيكية الغربية. لاشك.

لم إذن أطالب أحفاد صنّاع المنمنمات والرسّامين على الماء، بفنونهم الملوّنة، بالتزام الخط الكلاسيكي الأوروبي/ الأمريكاني كي تكون ذات قيمة؟ لم الأسود، ولديهم الموڤ والأخضر والأحمر وما خلق الله؟ ولم مسموح للمدرسة الغربية باستلهام/ اختطاف appropriation/ بقية الثقافات وابتلاعها ضمن أطرها، بينما ليس مسموحاً للباقين بأخذ البدلة وصبغها بالموڤ، أو الأصفر حتى، إن أرادوا؟

في واحدة من روايات ليان موريارتي الأقل شهرة، تعمل البطلة في التنويم المغناطيسي، ولا أعرف إن كنتِ تشاركيني نفس الخبرات القديمة عن هذه المهنة، ولكني بشكل عام لا أعرف عنها شيئاً وليس لدي انطباع جيّد عن ممارسيها. الرواية غيّرت من فكرتي عنها جذرياً، وإن كنت أحتفظ بحذري حول تطبيقاتها الواقعية.

حديث البطلة يتضمن فكرة العقل الذي يسهل عليه اعتناق الأفكار المقترحة عليه. ترجمة مقربعة لوصف الـsuggestible mind وأنا أودّ أن يكون عقلي من هذا النوع مع تحويرة صغيرة. أن أسعى بشكل فاعل لأن أغيّر من أفكاري المسبقة. أن أعيد التفكير فيها، أن أمطّ المسافات بين الحدود العقلية، وأدخل فيها اتجاهات واعتبارات أخرى بشكل شبه منهجي.

السعة في التناول. السعة في التفكير. المراجعة المستمرة وربط مالا يتّسق كي يتسق.

آمل ذلك.


عنوان التدوينة من (تهويدة؟) كانت تغنيها ابنة خالتي الكبرى لنا، ولم أكن أعرف ما أصلها، حتى اكتشفتها بعد البحث هنا. الدقيقة ٢:٤٠.

رأيان حول “أسود مثل الباذنجان”

  1. ثاني مقالة اقراها لك بعد بيت بجانب النهر واحس انه ويني عنك من زمان كاتبه مبدعة بمعنى الكلمة حسيت اني اعيش بين كل كلمة والثانية حرفيا ابداع وخيالي ساعدني استمتع بالكلام اكثر😍🥺

    Liked by 1 person

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s