من على كوبري المربّع

الأربعاء 18 ديسمبر 2019:

أكتب هذه الكلمات وأنا في السيارة، أنتظر اخضرار الإشارة على كوبري المربع لأصل إلى مقر اجتماع اليوم. دقائق معدودة، لأجرّب أن أكتب ما أفكر فيه خلالها.

مشروع بدأته قبل أسابيع. واتفقت عليه رسمياً في 12 نوفمبر كما تقول أوراقي. وكان سبب توتر يتجاوز بكثير ما يثيره هذا النوع من المشاريع. منذ أيام أرتب لعرض ما لزيارة اليوم، وارتحت واستعديت باستراتيجية معقولة. في السيارة خطر لي، بدون سابق إنذار، أن علي أن أقلب الطاولة. أخرج على النص. أن يكون الهجوم- ما أريده فعلاً- هو خير وسيلة للدفاع.

ليست لدي خطة متكاملة. لدي موقف وفكرة. ومستعدة أن أتحمل عواقبهما. يبدوان أكثر جاذبية، وحبوراً، من الخطة العاقلة الآمنة.

وصلت. تمنّوا لي التوفيق.

قبل سنوات قرأت مقالة في مجلة ” سايكولوجي توداي” تتحدث عن تحكّمك في قصص حياتك. أن كل ما يحدث لك هو قصة تستطيع أن تتدخل في صناعة تفاصيلها ونهايتها؛ كيف تتذكرها وماتقوله عنك.

تخيّل ألا تصبح الطرف المتلقّي. تخيّل أنك دائماً يكون لديك كلمة فصل بشأن ما يحدث لك. أن تتحكم لي ذكرياتك وأن تصنع ماضيك.

وبقيت معي الفكرة. أزورها من وقت للثاني، وأحاول تطبيقها في حياتي رغم شعوري بأني لست متمكّنةً منها بشكلٍ كافٍ. وهذا شعور متكرر في حياتي خصوصاً في السنوات الأخيرة. تأتي معرفة ما أنا في أشدّ الحاجة إليها. أحتفي بها عقلاً وروحاً، وأظن أنني أستطيع التقاطها وتطبيقها بمجرد أن تقف على بابي- أو أقف على بابها بالأحرى- ولكني أجد أنها ساكنةٌ في قصرٍ مرصود وبيني وبينها عشرات الأسوار. والصبر المُصرّ المثابر هو مفتاح كل هذه البوابات. فأظل أطرق الباب، وأطرق الباب، وأطرق الباب.. ويكاد يصيبني اليأس المتعب، ولكني أثابر.. بشكلٍ ما أثابر، فأجدها بعد شهور، أو حتى سنوات، تهادت إلي على مهل، وغمرت حياتي بأنوارها.

فكرة هذه السنة، بلا جدال، هي أنك المتحكم بقصص حياتك. ووصلتني بعد خمس سنوات أو أقل قليلاً بعد قراءتي لمقالة المجلة. وأستطيع أن ألخصها- ولتغفروا لي رتابة هذا الوصف- بـ : الفرق بين الواقع والوقائع.

كثير من أمور الحياة، تحتمل أكثر من ” واقع”، بينما نتعامل مع فكرتنا عن هذا الوقت، مع القصة التي اخترناها لتفسّر لنا أمراً ما، على أنها الواقع الوحيد.

الوقائع: الأحداث التي تقع. زيارة قريبك لك اليوم هي أمر حدث.

الواقع: تفسيرك لهذه الزيارة. معناها، والنوايا خلفها. وما تتعامل على أنه حقيقة، هو قصّتك التي صنعتها لهذه الحقيقة. وليس بالضرورة:

1- أن تكون صادقة.

2- أن تظل على حالها.

3- أن تكون هي الفكرة الوحيدة/ التفسير الوحيد/ الذي يقبله عقلك.

فإن كانت القصة يمكن تغييرها لتنفعك. لترفع عنك أذىً يمكن أن يصيبك، لتدفعك لمكانٍ أفضل يمكن أن ترتحل إليه، أليس من المعقول، والأفضل، أن تتولى بنفسك تغيير القصص؟ ترتيب حقائقها، إعادة صياغة معانيها، لتكون قصة متسقة مع الطيبة التي ترغب تعيش بها حياتك؟

لكن ماذا عن الوقائع التي لا تملك سبيلاً لتغيير معانيها؟ ماذا عن الظلم؟ عن اختلال موازين القوى؟ عن قلة الحيلة أو عن الخذلان؟ كيف يمكن أن تتعايش مع نتيجة قاسية صارمة لا يمكن تغييرها؟

الغالب أننا أحوج ما نكون إلى تغيير القصص عندما لا يكون هناك مفرّ من النتيجة القاسية. القصة لا تهدف إلى تغيير النتيجة، فتغييرها ليس بأيدينا. بل لتغيير استقبالنا لها. وعندما نغيّر تلقّينا للنتيجة، نحن نغيّرها.

هناك مثال مفاجئ في وضوحه ضربه الشيخ حمزة يوسف مرة. قال بأنك إن فقدت يدك اليمنى، دع شعور الامتنان يغمرك لأنك لازلت محتفظاً باليد اليسرى. وإن فقدت كلتا يديك، افرح بقدميك. وهكذا.

هذا تلقٍ مختلف. وبالتالي تختلف النتيجة.

الأربعاء 18 ديسمبر 2019:

عدت إلى منزلي، لم أكتب ما حصل معي أثناء عودتي في السيارة. ابتعت مفن مفضّل هذه الأيام من حلواني على الطريق، واستمعت لقائمة الألبوم الرابع لمحمود العسيلي. فكرت أن آخذ لفة على البحر احتفالاً بالانتصار الداخلي، ولكن بدا لي أنني في حاجة إلى دفء المنزل أكثر.

أخذت موافقة مفتوحة على أمر لم أكن أتوقع مجرد إمكانيته. ولكن الغنيمة الأسمى والأطيب ليست فيما حصلت عليه. الفضل هنا يعود لأصحاب الفضل.. بل في القصة ذاتها التي تغيرت، وسمحت لبعضٍ من أشعة الشمس أن تتخلل هذه الأسابيع الكابية.

نحن من طين السماء

استمعت اليوم الصباح لأغنية ” يقول إنني فضّلت” لأبوبكر سالم وكلمات حسين المحضار. رحمهما الله.

فجأة شعرت بحنين إلى صوته، فراجعت ما أعرفه من أغانيه، وهي ليست كثيرة، ووضعتها في قائمة أستمع إليها. وضمّنت القائمة لـ ” يقول إنني فضّلت” لأنها من أغاني أختي المفضّلة، وإن كنت وقتها لا أتذكر شيئاً منها سوى موضوعها الذي يقوله عنوانها.. حوار درامي بين أحبّة لا يثق واحدهم في محبّة الآخر. وهذا موضوع لا أميل له.

تفاجأت بالأغنية. تفاجأت بأشياء بسيطة، ولكن طاغية، فيها. كلما استمعت لأغنية من كلمات المحضار، أتذكر صديقة والدتي التي عملت معها في وقت من الأوقات ( في سنة فاصلة بين الثانوية والجامعة)، وهي من بنات أخيه رحمه الله. وأرى في كلماته، وفي الصديقة الغالية، ملامح ما أسمّيه بـ ” الطبع المحضاري”. الطيبة اللّينة. الكبرياء الهادئ. الوفاء. الاحتفاظ بملامح الذات منفصلة ومُصانة عن القريب مهما بلغ قربه. الأمل المتوازن في أن العشرة تغلب الجفاء، والأمور في النهاية تصل إلى نتيجة مُرضية بعد كل شيء. أرى هذا الطبع، كثيراً، في الصديقة الخالة، وأراه أيضاً بشكلٍ كافٍ في صديقة ثالثة لهما، وإن كان الطبع معها لا تغلبها الطيبة اللّينة، بل الحزم الذي يكاد يكون- ولا يكون- مسترخياً.

تبدأ الأغنية بمكالمة تليفونية بين أبو بكر والمحضار رحمهما الله. أستغرب من لفتات كهذه في الأعمال الفنية القديمة. لست أدري مصدر استغرابي بالضبط، ولكني أرى فيها عناية، وأميال كثيرة بعد ما هو مطلوب. كيف فكروا وقتها؟ الأغنية كٌتبت وسُجّلت- يبدو لي- في النصف الثاني من التسعينيات. وقتها أبو بكر رحمه الله كان يحمل الجنسية السعودية ومستقر في المملكة. لم تكن هناك أسطورة دبي بعد، واليمن عاد إلى استقراره، تقول ويكيبيديا، بعد حرب الانفصال في 1994.

ماجد المهندس حصل على الجنسية السعودية أيضاً قبل سنوات. وهويّته العراقية تكاد لا تبين في أغانيه. لا أقارن المهندس بأبو بكر أبداً. الأول جزء من صفحة في التاريخ، والثاني كتب التاريخ بنفسه. لكن الفكرة من استدعائي لماجد المهندس هو أن الثقافة الغالبة، والجمهور الغالب، يغلبان. ظاهرة ابن خلدون دائماً تفوز. ماذا يسمّيها الأمريكان؟ Cultural Assimilation.

ما أظنه أن الجمهور السعودي لم يكن يشعر بكثير، أو قليل، من الحماسة تجاه اليمن كثقافة في التسعينيات. ثم يأتي أبو بكر، رحمه الله، ويسجّل أغنية مغرقة في اليمنية، كمعظم أغانيه. ولكنه لا يكتفي بذلك فقط، بل يبدأها بتسجيل بينه وبين المحضار رحمه الله، وفيه يطلب من المحضار ” هات الكلام”. وحديثه معه، رغم اختصاره، يمني ليس فيه أدنى تسوية. حتى الأصوات التي يطلقها، مثل: ” هاه”، تصر على يمنيتها. وكان بالإمكان أن يستبدلها بصوت أبيض لا يتخلى فيه عن هويّته، ولكنه أيضاً لا يدخل في صراع شديد التباين مع المجتمع المُضيف. وتبلغ راحة أبو بكر أقصاها عندما يحث المحضار لأن ” حنحن به بس أنته. حنحن بوه”. ويقصد بها أن يلحّن القصيدة متمتماً بها كي يسمعها أبو بكر م اللحن.

أفكر أن هناك مبرراً قد يكون ذا وجاهة أوّلية لاحتفاظ بلفقيه بهوّيته لم تُمسّ. وهو أنه كان يتوجه إلى الجالية اليمنية العريضة في المملكة والخليج، وبناءً عليه، لا يحتاج لأن يتأقلم مع البلد المُضيف بما أن بلده المضيف هو عبارة عن امتداد لوطنه الأول. ولكني لست مقتنعة بذلك على الإطلاق. بل أراها قراءة سطحية. الحقيقة أن بلفقيه هو جزء من التجربة اليمنية في الخليج، وظل يعبّر عن كيانه وهو جزء منها، ولم يعبّر عنه فقط لجمهور التجربة اليمنية، بل ” مدّ الجسور” لتجد التجربة اليمنية، على الأقل الموسيقية منها، تجاوباً وترحيباً، بل وأخويّة، من شرائح الجمهور القريبة منها، وليست هي.

في فترة سابقة- فترة سابقة مين؟ كل 2018 إن أردت الصدق- كنت أقضي وقتي في استكشاف حديث برنيه براون. حديثها عن الشجاعة والانكشاف. ووصلت إلى تفاهم مع ما يزعجني منها، وما يمكن أن أتقبله. ومن هدايا ذلك الوقت، تسجيل على أوديبل لمجموعة من المحاضرات التي ألقتها على جمهورٍ ما كبرنامجٍ تعليمي. وناسبتني المادة جداً، كونها عفوية، وفيها الكثير من الفكاهة والجانب الإنساني الذي عادةً ما يفصلنا عنه أناقة كتبها وجدّيتها. المادة هذه عبارة عن ست ساعات تستكشف فيها أفكارها عن الشجاعة والانكشاف. مدّة كافية جداً لتذهب أنت أيضاً، كمستمع، في رحلتك الخاصة لهذه المناطق الحرجة.

الفكرة التي استوقفتني كثيراً في هذه المادة هي حديثها عن الاندماج. الـ Fitting in. تقول، بكثير من التصرّف، أن العائق الأساسي أمام قبول الذات هو الاندماج. تعرّف الاندماج على أنه ” تقييم ثم تأقّلم”. تقييم لمن أمامك. تفترض ماذا يحب. تفترض ماذا يكره. تفترض ما الذي يحوز على احترامه. تفترض ما الذي يعجبه ويرضيه. ثم تصيغ مظهرك الخارجي، أفكارك ومشاعرك ومواقفك وآراءك، كيلا تصطدم به. تضع نفسك في إناء، وتطلب منها أن تتأقلم.

 لم نحتاج إلى التقييم والتأقّلم؟ لأننا نخاف أن يٌحكم علينا. من ألا نكون كافيين كما نحن. فلما نأتِ إلى الآخر، ونيتنا الاندماج، ثم نفشل في بناء الصلة/ الانتماء، رغم أننا بذلنا كل ما بوسعنا كي نتأقلم معه. النتيجة هي تأكيد الفكرة الأصلية. لسنا كافيين. أتينا وهدفنا الأساسي أن نتّصل. ورُددنا، خائبين، بخفّي حنين.

بينما لو أتينا إلى الآخر، ونيتنا أن يرانا الآخر. ألا نقايض استحقاقنا الذاتي بمقابل إتاحة الفرصة لنا لنُقبل ضمن الجماعة، ثم فشلنا في بناء الصلات، فالنتيجة قد تكون خيبة أمل، بعض الارتباك أو الأسى، ولكن هذه المشاعر لا تمس صورتنا عن أنفسنا، وقبولنا لها.

بلفقيه، لم يكن ليكون بلفقيه، إن أفسح المجال لعمليات التقييم والتأقلم. وماجد المهندس، عمره ما راح يقترب من مكان بلفقيه، طالما سمح لهذه العمليات بالوجود، ولم يمد يده على طولها، ليتناول من هو حقيقةً. دون مقايضات.

أنا وأنت؟ نحن لسنا بماء.

  • الصورة في أول التدوينة تجمع بين العملاقين المحضار وبلفقيه. من تويتر. ولم أحتفظ بمعرّف صاحبها للأسف، فليعذرني.

152 نافذة على الروح

هناك إنجازات تأتي ومعها وحدة قياسها. شهادة ماجستير. 4 سنوات خبرة. تسليم مشروع. وظيفة جديدة.

ولكن ماذا عن الإنجازات المُجَرّدة؟ ليس معها إرشادات كمّية تسهّل علينا إدراجها في بورتفوليو حياتي وحياتك؟ تلك التي نتعامل معها غالباً وكأنها تحوّلات شخصية، ليس لها، أو لنا، تسجيلها كأعمال قدّمنا فيها الجهد، وبذلنا لها الطاقة.

ماذا عن الجدار الذي تسلّقته كي تضبط غضبك، عن النهر الذي عبرته كي تصبح شخصاً ” أكثر”. عن الحماقات الكثيرة التي سمحت لنفسك بارتكابها مرةً بعد مرة، إلى أن توقفت وقلت يكفي؟

ماذا عن الالتزام الحقيقي بأن تكون حاضراً لعائلتك، لأصدقائك.. وأنت في الأصل قد يروق لك الغياب. ماذا عن سنة الفراق؟ ماذا عن سنوات الصبر على المسؤوليات؟ ماذا عن المفاوضات الضمنية التي أجريتها لشهور كي تصل إلى اطمئنانٍ ما مع شريك حياتك؟

ماذا عن استيقاظك صباحاً، يوماً بعد يوم، تيقظ نيّتك الطيبة معك، تجاهد لأن تجعل هذا اليوم يوماً طيباً لك ولغيرك، مهما تعرّضت لك فيه أحداث الحياة؟

أين هذه الإنجازات من إنجازاتنا؟ وكيف نقارن صعوبتها الخُرافية بالسهولة النسبية التي يتطلّبها التعلّم لشهادة، أو التركيز في عمل ما للانتهاء منه؟

أقرأ هذه الأيام في مذكرات جيم هنسون، مبتكر شخصية الضفدع كامل ورفاقه، وكانت مفاجأة سعيدة لما لقيت إنه في ١٩٦٥ بدأ في تسجيل ” إنجازاته” سنوياً في دفتر أحمر، تتجاور فيه أحداث العمل، كإطلاقه لشخصية جديدة، مع حضوره لعيد ميلاد ابنته رغم كل الضرورات المهنية التي تحتّم عليه الغياب عنه. هذه ليست فكرة جديدة. بل تكاد تكون فكرة ” معتادة”. لم إذن تغيب عنّا؟

الصفحة الأولى من الدفتر الأحمر، بخط جيم هنسون

التحولات الداخلية هي ما تصنع حياتنا. وهي ما تسمح لنا بأن نكون. وكل ما غيرها من مقاييس تعارفنا عليها، عبارة عن نتائج لهذه التحوّلات، أو ينبغي أن تكون كذلك. وهذه التدوينة نداء عاجل لكل الإنجازات المُجرّدة التي قدمتها لنفسك في حياتك. بدون وحدة قياس. هي إنجازات حقيقية، وأهمية أن نستطيع التعرّف عليها، والتعامل معها على أنها ” إنجازات” مقابل كونها ” أفكار واتجاهات”، تتجاوز مجرد تهنئة نفسك بما حققته حتى الآن.. هي مفصلية في قيادتك لحياتك، وفي تحقيق رضاك الحقيقي.

الفكرة التي وصلت لها- بعد تجريب- هي أن أصنع وحدات قياسي الخاصة بي. تسألني كيف. أقول لك بالحكي. بأن تعطي المُجرّد لغته. اسمه وصفته. وأن تعود إليه كتاريخ وثّقته رسمياً في مذكراتك وفي أحاديثك للمقربين. ” الدكتوراة” اسم. ضع لإدراكاتك، لإنجازاتك المُجرّدة أسماءً كذلك، وڤوالا، باتت معالم تستطيع زيارتها والاتفاق على وجودها المحسوس.

أعود لسنة 2014 بأنها سنة ” زيديني عشقاً زيديني”، وبمجرد أن أذكر اسمها أمام صديقتي العزيزة أو أختي، لا أحتاج أن أشرح ما أعنيه بها- أؤكد لك، ليس للمعنى علاقة بالعشق والغراميات إطلاقاً- لأنني في تلك السنة كانت الفكرة وراء هذه التسمية هي شغلي الشاغل، والإنجاز المُجرّد الذي أتت به وأتى بها، سمح لي بأن أعيش السنة القادمة، 2015، بمجموعة جديدة، ومنتعشة، من الإنجازات المُجرّدة الأخرى.

أي غاية أنبل، وأكثر حقيقية، من الاتصال بذواتنا. أن نسمع لها، وأن نحافظ على نقاء صوتها، في ظل الدوشة المستمرة، الصاخبة المؤثرة، التي تحيط بنا.

أن تظل حقيقتك متماسّة، بشكل مباشر، مع أيامك.

ألا يغلبها الصوت الأعلى، أياً كان.. يظل صوتها واضحاً، حكيماً، له كل الاحترام والوعي. أن تمشي في طريقك مستمتعاً بمعانيك الخاصة. بأفكارك، وبتحدّياتك، وحتى بعفاريتك. وأن تكون كل محطة تصل لها هي محطة تريد أن تصل لها، ليس لأنك رأيتها في طريق فلان، أو أوصى بها العقل الجمعي لمجتمع علّان. المساحة الوحيدة التي أستطيع أن أرى ذلك متحققاً فيها هي في أن تبدأ بحساب إنجازاتك المُجرّدة أولاً، قبل أي إنجازات، أو نتائج، أخرى.

  • الصورة في أول التدوينة هي لجيم هنسون، في مكتبه بمنزله بنيويورك. تجد الكتاب هنا.
  • عنوان التدوينة ” 152 نافذة على الروح” مُقتبس من حوار بين ميج رايان وتوم هانكس في فيلم ” You’ve Got Mail“.

جلّابيات في صباح السبت

قبل سنوات في الدانوب كنت أحاسب، وأمامي، وأنا ما مدّيت النظر، سيدة تنتظر أحداً ما. في لحظة ما التفتت بوجهها فشعرت بارتباك بالغ وكأنني أحتاج التأكد من شيء.

وجه مستدير، ممتلئ، ويرتدي نظارة. تكاد ملامحه تطابق ملامحي. وكأنني في مسلسل أو فيلم. وارتباكي، لثانية، كان: هل هذه مرايا؟

السيدة/ الفتاة، كانت ترتدي نظارة ذات إطار عريض أسود. وتلم بين يديها شرشف أسود كعباءة. ذلك الذي كانت ترتديه والدتي وعمّتها قبل سنوات طويلة. ومن تحت الشرشف الذي يرتفع حتى ما قبل ركبتيها، تظهر جلابية برسومات بنّية في غاية البشاعة، بل إن الوصف الدقيق لها كان ” رسومات حشراتية” – لو رأيتها بدون سياقها- ولكنها ظهرت في تلك اللحظة كأنسب ما يكون. ومن تحت الجلابية، صندل أسود مما شاع في الثمانينات ربما. بإبزيم عملاق في مقدمته.

أظن، والله أعلم، أن السيدة التي تشبهني وأشبهها، لم تكن تحاول ابتكار مظهر/ لوك معين. لم تكن تستدعي الانتباه. لم تكن مدركة لاستدعائها الانتباه. كانت واقفة ببعض نفاذ صبر أمام واجهة محل تختلط فيه الاكسسوارات مع النظارات مع بعض الحقائب (أحد المحلات الذي كان يحتويها دانوب الصيرفي بجدة)، وحولها بعض الأكياس. تعِبتْ. وأبغى أروّح البيت.

لكنها، يا ربي، كم كانت فاتنة.

فتنتها لم تكن في ملامحها، بل في البعد الذي اختارت أن تسكنه بملابسها. ألا تتخلى عن ترتيبات مألوفة. ألِفتها والدتها، وألِفتها جدتها، وربما والدة جدتها. كبيجامة قديمة عصيّة على الاهتراء. دافئة، ملوّنة، وفيها سمر الليالي وطيبة الصباحات.

وفي تلك اللحظة بالذات، عرفت أني ” عايزة من ده يا حزمبل أنا عايزة من ده“.

أريد أن أتعلّم وأتبنّى القصّة. الجلابية، والصندل العِفش، ولا مانع عندي من أن أضيف تفاصيلاً أخرى أو لا أضيف. بناجر الذهب؟ بعضاً من حناء على أصابعي؟

هذه أمور لم أخضها في حياتي. ولكنها تعرفني وتحبني، وأعرفها، وأحب أن أحبها. ووعدت نفسي، في مستقبلٍ ما، سأتعامل مع الأمر كمشروع. سأشتري جلابياتي بنفسي (من أي المحلات نشتري الجلابيات؟)، وسأتحنّى، وسأصل بطريقة ما إلى اقتناء الصندل إياه (هل لازالت تبيعه المحلات؟).

وظلت الوعود معي. بين شهور وأخرى يطرأ ما يذكرني بها، فأبتسم. وتطير فراشاتي تحمّساً لها. لكني لم أنفّذ المشروع. وفي السنتين الأخيرة ربما لاحظت أنني لست وحدي من يعود إلى هذه التفاصيل، فتيات وسيدات كثيرات قدّمن نسختهن الخاصة للفكرة. بالأمس وبينما كنت أتصفح مفضّلة حسابي على تويتر، وجدت هذا:

ووجدت، بما أن هذه الأيام من حياتي تصلح لأن تُعنّون ب” وقت الأشياء الطيب هو وقتها”، فأحب أن أشرع في تنفيذ الأمر فوراً. وعاجلاً غير آجل.

في صباح اليوم ذهبت لوالدتي الله يخليها. سألتها: أبغى أشتري جلابيات. فين نروح؟ نظرت إلي بعينيها المتفحصتين، كعادتها عندما تريد تقييم طلباتي، وهل تنتمي إلى السياق الطبيعي للطلبات أم أن لدي أجندة خفية تخالف عادية الأشياء. ثم قالت: تشتري قماش الجلابيات، وبعدين نخيّطها. طيب من فين نجيب القماش، تساءلتْ. قالت: عندي منه كثير. ثم بما يشبه السحر الذي لم يعد سحراً إن تعوّدت على عالم والدتي، أرتني مجموعة من أقمشة الجلابيات التي لاتزال بأغلفتها. هذه من صديقتها فلانة. وهاتين وصلتها من الإمارات، وهذه البحرين، وهذه من خالة رضية رحمها الله.

يا للسعادة. أظهرت فرحي الذي استقبلته والدتي بتأنٍ مبتسم ومستغرب. ثم اخترت اثنين. واحدة مليئة بالرسوم المدوّرة مثلي، وفيها كثير من الألوان المبهجة، بنفسجي بدرجاته الموڤيّة، وبعض الأصفر الشمسي الغامق. والثانية بيضاء تميل بأناقتها إلى الانتقاء المغربي. بتطريز خفيف على ياقتها يجمع بين اللونين النحاسي والسمائي.

بعدها بدقائق أتتني بجلابية- قفطان بأكمام قصيرة أكثر من كونه جلابية- وقالت لي أنها هدية من عمّتها- كنت سميّتها- التي توفّت منذ أربع سنوات. وأنها لم ترتديها لأنها طويلة ولا يناسبها التقصير، ولم تطاوعها نفسها أن تهبها لأحد آخر. حتى أتيت أنا وسألتها عن قماش الجلابيات. وربما عن كل الحكايات العزيزة التي لن تأتيك طوعاً، إلا أن أتيتها قاصداً ترجو رجاها. ربما تكرمك بسكناها.

  • صورة القمر في أعلى التدوينة هي لسيّدة من عمان في 1972، للمصوّر الفرنسي المغربي الأصل برونو باربي.

دكان مقفل. دكان مفتوح.

عندي صديقة عزيزة، تتحفظ على ذكر اسمها، عندها مؤسسة صغيرة. صغيرة، صغيرة، صغيرة.

بدأت قبل سنوات لا بأس بها. في ذلك الوقت لم تكن تفكر في العمل التجاري، ولكنها وجدت- بالصدفة تقريباً، وبكونها الشخص المناسب في اللحظة المناسبة- طلباً على خدمة تستطيع تقديمها، وتستمتع بالقيام بها، فاستجابت للطلب، وأسست عملها الخاص.

في البداية قامت بخطوات صغيرة للتسويق. حسب ما يسمح به المزاج، الوقت، والأفكار. ثم توقفت عن التسويق نهائياً. استثمرت عشرة آلاف ريال تقريباً في تطوير هوية وموقع إلكتروني، وباتت تجدد إيجار الموقع كل عام أو عامين. عندما يأتيها عميل جديد ترحب بالمشروع والرزق، وعندما لا يأتيها عميل جديد، لا تلقي بالاً إلى الأمر. 

تقول أنها في هذا الأمر تشبه جدّها، رحمه الله تعالى، والمعروف عنه أنه كان تاجراً سمحاً ورائقاً. ” هني وسهيان” كما في أغنية فيروز. يفتح الدكان، فإذا أتوا الزبائن أو لم يأتوا، يكفيه أنه قد فعل ما عليه.

وهي- بموقعها الإلكتروني- قد فتحت الدكان. ليست في الوقت الحالي مستعدة لأن تفعل أكثر.

تعمل من غرفتها، ومن عملائها أكبر الشركات السعودية، وكذلك أصغرهم. يأتون ويذهبون. يعودون أحياناً أو لا يعودون. وهي، في كل يوم عدا أيام الإجازات والأعياد، حاضرة لأن تفتح الدكان، وتستجيب للاتصالات والإيميلات.

كنت، ولازلت إلى درجة ما، أجد صعوبة في أن أستوعب جدوى ما تفعله. حتى مع معرفتي بأن دخل المشروع، قل أو كثر، لا يؤثر كثيراً على حياتها. لكن.. ألا تود أن تخطط؟ أن تتحرك؟ أن تسعى لتحقيق أهداف مالية من نوعٍ ما؟ طيب مشاريع؟ عملاء من نوع معين؟

وردّها المبتسم دائماً: ” أيوة بس أنا خلاص فتحت الدكان!”.

قبل سنوات فتحت الدكان الخاص بي، وفي الشهور الذي تلت ذلك فتحت دكاناً آخر، بالإضافة إلى مشاريع أخرى جانبية. وكنت في سياستي التجارية مختلفة جذرياً عن موقف الصديقة الرائقة. أحب أن أضع أهدافاً، أن أكون قادرة، بشكل مرن، على توقع المشاريع التي ستأتيني خلال السنة، أن أخطط، وأن أحقق الخطط أو أتفاجئ بما تأتي به الأيام رغم إحكامي للتخطيط وسعيي للوصول إلى ما أريد. لا تفهمني خطأ. إدارتي لعملي مسترخية في أغلب الأحيان، ورؤيتي للعمل التجاري وحتى الوظيفة تعتمد على أنها جزء من رحلة نمو، وليست الرحلة كاملة. نَفَسي طويل، إلى حدٍ ما، وأكره فكرة الضغط ومطاردة الإنجازات، وفقدان الرضا والرغبة في المزيد. لكن السيطرة على مقاليد الأمور، قدر الإمكان، هي فكرة جذابة ومهمة بالنسبة لي، أو كانت.. حتى قررت في لحظة جوهرية لامعة، أن أقفل الدكاكين.

في بداية 2018 تخلّصت من كل ارتباطاتي، وعدت أرى نفسي حرة من جديد. كانت خطوة ضرورية، ولكن لم يكن عندي مشروع ” احتياطي” آخر. كل ما في الأمر فتات خبز على الطريق وكأنما عقلة الأصبع، تعرف عقلة الأصبع؟ قد فتّه خصيصاً كي أعرف طريق العودة إلى البيت الذي أعرف بوجوده، لكنني لم أره قبل. أتمشى وألتقطه، وأفكر..

لم تكن لدي لافتة أعرّف فيها نفسي، وليست لدي دكاكين أديرها، وأستقبل أيامي على أساس ما تأتي به. لم أكن ضائعة. ولكني أشتاق للعودة إلى المنزل. وعقلي، بنزعاته المنهجية ورغبته في السيطرة على مقاليد الأمور، يود أن ينطلق. يود أن ” يلتهم” الطريق التهاماً. لا تناسبه المشية المسترخية أمام مشروع ضخم كهذا المشروع. مشروع أن أجد نفسي.

كنت في رحلة العودة إلى ما أنا عليه. وفي هذا الطريق، علي أن أتخلّى عن بعض ما أنا عليه.

ولم تكن رحلة سهلة. تتنازع على استقراري الموانئ. أيام تمضي هادئة، مستقرة، قنوعة. وأسابيع تمضي في حالة من التساؤل المُلِّح، القاسي، المُطالب.

وأنا دائماً، دائماً، أود للهدوء، والاستقرار، والرضا، الانتصار. فأظن أن مهمتي في المرحلة الأولى من الرحلة، بدون تخطيط، كانت أن ينتصر هذا على ذاك. أن تتحول أيام الهناء إلى أسابيع، وأن تتقلص المطالبات اللدودة لتصبح أياماً.. ثم ساعات. وإن أمكن، لحظات.

الكتابة ساعدتني. ولأن الصفحة البيضاء فخ كما يقول مؤمن عكل، لم أكتب على الورق أو على البرامج التي تتوقع مني أن أملأ السطور بالأحاديث المتماسكة. سجّلت على تويتر، وأغلقت الحساب فلم أتابع أحداً ولم يتابعني أحد. باتت الفقرات القصيرة هي ملاذي. أكتب خلال اليوم، كلما تعالت أمواجي تطالبني بأن أتحرك، كتبت قليلاً، وتفاهمت معها ومعي. أكتب. وأقرأ ما كتبت. ثم أكتب. وأقرأ ما كتبت.

القراءة، بالطبع القراءة، ساعدتني. توقفت عن قراءة الكتب التي تحفّز رغبتي في الوصول، وبتّ أبحث عن تلك التي تساعدني على الاستمتاع بمعالم الطريق.

وجربت أشياء كثيرة أخرى. ممتعة وغير ممتعة. بالإضافة- طبعاً- إلى استجابتي لرغبتي في التحرك من وقت لآخر، وفي أغلب الأوقات، كنت أخضع هذه الحركة لمقياس واحد: هل ستساعدك هذه المُلهيات كي تصلي إلى ما تريدين الوصول إليه؟ وإن لم تساعدك، هل ستمنعك؟ وإذا لم تمنعك، هل ستأخذ منك طاقة، ومساحة، تحبين توجيهها للرحلة الأهم؟

فإن لم تساعدني، ولم تمنعني أو تشتتني، استجبت لها.

وفي بداية 2019، أي بعد ما يقارب العام، بدأت أخيراً في التخلّي. في أن أترك فعلياً الزمام، وأسمح لعقلي بأن يتجول على راحته. وبالرغم من ذلك لم أصل إلا في نهاية العام. على مدار الأسابيع الماضية فقط بدأت القطع المختلفة في التساقط بين يدي في سلسلة واضحة، مرتبة، ومنطقية. تبدو بديهية وأنيقة عندما أجرب الحديث عنها، بينما أعرف جيداً النفق الذي احتجت المرور به قبلها.

أعرف الآن أن الفكرة وراء ” فتح الدكان” ليست أن تتخلى عن وضع الأهداف، عن التخطيط والعمل بجدّية للوصول إلى ما تريد. الفكرة هي أن تتخلى عن الظن بأن الأمور تحت سيطرتك، أو أن ترغب أصلاً في أن تكون تحت سيطرتك. أنا وصديقتي العزيزة على نفس الصفحة الآن. رغم أنني لم أتخل، فعلياً، عن طريقتي المنهجية في العمل. لكن تعلّمت أن عليك أن تفصل بين ما تود أن تفعله، وبين الوصول. الوصول إلى المعرفة التي تحتاجها. الوقت المتسع. الفهم. المشاريع. الأهداف التي تريد لا الأهداف الذي يتوقعها الجميع منك. الوصول رزق لا علاقة لجهدك به، طالما تفعل ما تشعر بأنه مناسب، افعله..

” افتح الدكان” بأي طريقة تناسبك، واترك الوصول على الله.  

نجمة في السقف

عندما انتقلت إلى بيتنا قبل سنوات عديدة، احتلت سقف غرفتي نجفتان من أقبح ما صنعه الإنسان. وكانت المهمة الأولى بالنسبة لي هي شراء بدائل لهما.

ابتعت البديل، وأتى الكهربائي الماهر الذي أعتمد عليه في كل شيء- رحمه الله- ليركبهما. بدأ بالأولى. ولسبب مجهول لا أعرفه حتى اليوم، قرر أن عملية التركيب خطرة، وأن عليه أن يأتي بشيء ما لتتم بسلام.

لم يأتِ الشيء، ولسبب مجهول هذه المرة من ناحيتي، قررت ألا أطارده. بل تخلصت من البدائل الجديدة ذات التصميم الألترا مودرن. وتعايشت مع أصحاب الدار. هكذا بتّ أسمّيهما. ونشأت علاقة متينة، حميمة، متفاهمة، بيني وبينهما.

هل هي مصابيح من القرون الوسطى الأوروبية؟ هل شهدت فتح طارق بن زياد للأندلس؟ هل صنعها حرفي في فينيسيا في القرن الثامن عشر الميلادي؟ هل كانت أول أدوات الإنارة الكهربائية التي وصلت لميناء جدة بعد انضمامها للمملكة؟ هل هي طفرة من طفرات الثمانينيات المجنونة؟

لا أعرف. ما أعرفه اليوم، وفاتني في الأيام الأولى لتعارفنا، هو أن القديم له مكانه. له هيبته. له ضروريته.

كنت لفترة طويلة أحب أغنية فيروز ” بعدك على بالي” ليس للحنها ولا لصوت فيروز، بل لعبارة فيها. عندما تقول ” يا ذهب الغاليين”. هذه السنة اكتشفت أنها تقول ” يا ذهب الغالي”، ولكن لا بأس، يظل المعنى العبقري الأول ملفتاً كما كان. عندما يحتاج الذهب أن تعود ملكيته ” للغاليين” كي يصبح جديراً بالذكر. أن نحكم على الأشياء، كل الأشياء، بمعانيها، وليس بما يظهر لنا من سماتها الفيزيائية.

قبل أيام قليلة احتجت لنزع واحدة من النجفتين لعمل إصلاحات ضرورية في السقف. تقبع النجفة من عليائها على الأرض. تبدو كما أنها تراقبني، بينما أراقبها وأوجّه لها موجات الحب الواحدة تلو الأخرى. تذكرني بإن الجمال قصة أصنعها في خيالي، وتتحكم فيها معانٍ أهم من حقيقتها المجردة. معانٍ مثل التعوّد والعشرة، المعدن الأصيل والقيام بالواجب كما ينبغي أن يِقام به. لم تخذلني إحداهما مرة، أليس في هذا جمال يتفوق على كل ما عداه؟

إلا قليلا

أن تشرب الماء حتى تمتلئ به أطرافك، وأنت لم ترتوِ بعد. فتقول الحمدلله، وتسأل الله الاستزادة.

في أول يوليو الماضي بدأت مشروعاً شخصياً، وتوقعت أن أنهيه خلال شهر بالأكثر. وهانحن في نهاية أكتوبر، أربعة شهور بالتمام والكمال، ولم ينته بعد.

هذه كانت أول الحكاية. شخبطة عاجلة موقنة بأنها قريباً ما ستذهب لحالها.

قمت بكل المهام المطلوبة. أستيقظ أبكر مما اعتدت عليه، أخصص له وقتاً من يومي حتى في تلك الأيام التي كان من الصعب فيها أن أخصص له وقتاً من يومي.

ولم ينته بعد.

حلقة ناقصة. صغيرة. مجهولة. وزئبقية لا أعرف كيف السبيل إلى القبض عليها. كي أرضى وأرتوي. لم تبدو الأشياء عصيّة على التمام؟

بين وقت وآخر أطل عليه. أمشّط عقلي يمكن أن الفتفوتة التي أحتاجها قد زُرعت وحان وقت الحصاد. أعرف جيداً أن الأمر توفيق من الله، ولا علاقة له بجهدي العقلي. هذا الجهد قد مشيته خطوة خطوة الشهور الماضية، وكنت سعيدة بتراكميته، وبرؤيتي لصورة الأمر وهي تتكون رويداً رويداً في مشهدٍ سينمائي مهيب.

يبدو أن الميل الأخير الذي نحتاج قطعه كي تكتمل البناءات، كي تفرح بثمرة جهدك لشهور، وربما لسنوات، يتطلب مهاراتٍ وإدراكاتٍ مختلفة عن صندوق الأدوات الذي اعتمدت عليه طيلة المراحل السابقة.

طيب ما العمل؟

نحتاج إلى الصبر على المجهول. أن تعرف، وترضى، بأن هناك أموراً كثيرة خلف الحجب. سيُكشف عنها الستار وقتما يُكشف عنها الستار. ليس لك حيلة في الأمر. تمسّك بالدعاء، وبالإيمان أن الرزق، أي الرزق، بيد الله.

نحتاج كذلك إلى التفاهم مع التهيؤ العقلي- السابق لأوانه- لغمرة الشعور بالإنجاز. العقل يقول: إني أرى رؤوساً قد أينعت وحان قطافها، والوقت يقول: ليس بعد. لنعد برمجة توقعاتنا، ولنطلب من التفاعلات الكيميائية التزام أماكنها السابقة. خذ النَفَس. أطل النَفَس. ليس بعد.

وربما من الطيب، من المؤكد أن من الطيب، ألا نصغي لعقارب الساعة. صوتها يدفعنا إلى الحركة في الوقت الذي نحتاج إلى السكون السديد فيه. لنخلع الساعة عن الجدار، لننزع منها البطاريات، ونرمي الكل في سلة المهملات.

أخيراً. لم لا نتوقف عن التفكير في المشروع على أنه هو المشروع. لم لا نفكر أن المشروع الأهم، الأطيب والأحلى والألذ، هو أن نشق الطريق العقلي لامتداد جديد لنا. لمشاريع كثيرة قادمة من نفس المكان. والصعوبات والمجاهيل التي نواجهها في هذه الرحلة لا تتعلق بهذا المشروع الذي وضعت مدةً زمنية ما لتنفيذه، بل تتعلق بتأسيس البنية التحتية لصندوق أدوات إدراكية تحتاجها، وتودّها، لما هو قادمٌ من العمر الأخضر.

بمجرد أن وصلت لهذه النتيجة، اختلفت السياقات، واختلفت مطالباتي. هذا هو الارتواء. إلا قليلاً.

في هيبةٍ قدسيّةٍ

أن تحمل الشعلة. هذه والله ليست مهمةً سهلة.

أن تعرف أن هذه الشعلة، هذه الراية، تستحق أن تُحمل. تستحق أن تظل مرفوعة. حتى لو تصبب العرق على عينيك، حتى لو احترقت عضلات يديك، حتى لو نال التعب منك كل منال.

أحمل شعلتي الخاصة. أحملها لنفسي أولاً، إذ ماذا تكون الحياة بدون أن تجد معناك؟

بالأمس مررت على كورنيش جدة عندما اقتربت الساعة من الثانية عشرة ظهراً. الجو حار حتى مع وعود أكتوبر الآفل، ومع تكييف السيارة. لازالت المقاعد تستقبل أشعة الشمس من كل زجاجٍ متاح. وفي عز الحر، وعز ظهيرة يوم الأسبوع المشغول، رأيت رجلاً في أربعيناته ربما، يصلّي لجهة الغرب، ووراءه البحر.

وفكرت. ماذا لو كان هذا الشخص- خيالاً لا حقيقة- لديه ما يكفيه من الدنيا، ولا يحتاج لعمل. كل ما يفعله في أيامه هو الذهاب إلى البحر وقت الظهيرة، ويتعبد الله هناك. هل هذه حياةٌ قيّمة؟

ألم يخلق الله الجن والإنس ليعبدوه؟ ألا يكون هذا المُتخيّل، قد استوفى معنى وجوده على هذه الأرض؟

وبعيداً عن مدى اتفاقك، أو اختلافك، مع شرعية هذا السيناريو، هل هذه حياةٌ تكفيك؟

إن التقى فيها المعنى العام لوجودنا كمخلوقات في هذا الكون، لعبادة رب الأكوان، مع معناي الخاص، فهي تكفي وتزيد. بل وتملئ البحور.

ما الذي أعنيه بالمعنى الخاص؟ القصة التي تتفق فيها مع ذاتك. الحقائق التي تبعث في داخلك السكينة والرضا، بل والمتعة. قوتك كإنسان، ضعفك كإنسان. بصمتك الشخصية التي لا يشاركك في دقتها أحد. تأتي بقلبك السليم، وتمارس العبادة بأن تكون أنت.

وتحمل الشعلة.

قد تكون هذه الشعلة إقامة بيت على التقوى. تربية الأبناء على الصلاح والدعم. تأليف الكتب. نقل العلم. إطعام الطعام. إغاثة الملهوف روحاً وعقلاً.

اليوم أحمل شعلتي وأصعد الجبل.

استيقظت فجراً، وكنت متأهبة منذ الأمس وقمة الجبل تلوح لي. استعنت بالله.. هل استعنت به حقاً؟ ربما كان ينبغي علي أن أستعين أكثر. قرأت أورادي وعدت لسورة مريم. لم أوجّه النيّة ولم أطيّب الخاطر الذي- من سابق تجارب- سيصاب ببعض الجروح في الطريق.

مضيت في مشواري، عقبةً وراء عقبة. ومع كل عقبة، ترتجف يداي، أفقد ذراتٍ قليلة، ولكن مؤثرة، من إيماني بجدارتي لحمل هذه الشعلة. أذّن الظهر وقد قمت بما يمكنني القيام به لليوم. بقية النهار بات للرد على الإيميلات، بداية المرحلة الثانية والأخيرة من مشروعٍ قائم. كأس من عصير المانجا الطازج، وتذكير بأن الرحلة ليست فقط صعوداً للجبال، بل فيها الواحات الخضر والبحيرات الزرقاء الرقراقة.

اليوم أحمل شعلتي وأحترق. غداً أظلل شعلتي بينما تظل- آملةً- تشتعل.

ينزل المطر

اليوم من الأيام الممطرة.

بعض حزن. وشفافية. وإدراك مرهف للأمنيات اللي لم تقترب إليها اليد بعد.

ماذا تفعل في الأيام الممطرة؟

الأصحاب مشغولون بدواماتهم ونوم الفجر. وفكرة أن تتصل عليهم لتتشارك معهم مظلةً ما في الشوارع المغيمة تجعلك تشعر بأن هناك طارئاً ما يتطلّب النجدة من آخر.

وأنت لا تريد النجدة. ولا تريد أن تشعر بأن هناك طارئاً يحتاج الإغاثة العاجلة.

تسمح للمطر أن يغسلك. قليلاً. من الضرورة لنضجك أن تفعل ذلك. أن تقف لثوانٍ تحت هديره.

تتذكر بأن في أوقات المطر، الحسّية والتخيّليّة، الذكر طيّب. فتمسك بمسبحتك وتبدأ في الإنشاد. سبحان الله. والحمدلله. وسيأتينا ربنا من فضله، إنّا إلى ربنا راغبون.

تتشبّث بأطراف ذاكرتك. أفعال روتينية صغيرة تحسّن المزاج، وتدفع باليوم إلى أمامٍ واعدٍ بالإشراق. موزة صفراء. عطر وردي. الكثير من الماء.

تترافق مع سورة مريم. يلين قلبك مرة جديدة عندما تقول ستنا، وهي الشابة الغضّة التي تختبر الوجع لأول مرة، ” يا ليتني متّ قبل هذا وكنت نسياً منسيا”. ربما كانت أصغر منك وهي تواجه هذا الألم. وحيدةً إلا من إيمانها.

وتصل إلى الوعد. سيجعل لهم الرحمنُ وُدّا. فتستغرب من التركيبة اللغوية التي تنتبه لها لأول مرة. وتشعر بالدفء يسري في أعطافك عندما تدعو الرحمن بالودّ، بعيداً عن المطالبات الحارقة المتلهفة. بهدوء. تنتظر.

تتذكر أنك لم تفتح بعد هديةً غالية وصلتك ممن هو أغلى. حان وقتها الآن مع المطر. تحملها بعناية وتأنٍ. تريد أن تكون حاضراً مع كل خطوة. أن تسمح لحلاوة الهدايا، وحلاوة الدنيا التي تمثلها الهدايا الودودة، بأن تتخللك. تتأملها بين يديك وهي لازالت في غلافها. تفتحها بدون أن تؤذيه، تسوّي أطرافه، تطبقه، تضعه جانباً بدون أن يغيب عن عينيك.. كما تأمل أن تفعل مع حزنك. ثم تستكشف الهدية قطعةً قطعة.

تترك جمالها ينير الأركان الكابية. ترسل رسالة فرحة ومقدّرة لصاحبتها. ستستيقظ بعد ساعات قليلة، وتجدها بالانتظار.

تتذكر أن صديقة أخرى أرسلت لك صورة مشاغبة كعادتها من مكتبة كينوكونيا في دبي. تفتح الصورة وتبتسم للعيون اللوزية والوجه الشقي. ثم تنتقل بين الصور لتتأمل في الملكة الصغيرة التي شرّفت العالم بميلادها قبل شهر بالضبط. تملأ قلبك بالوعود بينما تملأ عينيك من التكشيرة الصارمة، العزيزة القريبة، ويختلط المطر بسيل الحنّية العارمة التي تستعيذ بها الخالات والعمات من الأحزان وانطفاء الأيام.

المطر لا يهزمك. هو لم يرغب في ذلك أصلاً.

يريد منك أن تحيا. أن ترهف النظر والسمع والحس.

أن تغسل عنك اعتيادية النعم، أن تلجأ للسماء، أن تميل لها وتتغطى.

تكتب في مدونتك الجديدة. الكتابة صلة. الكتابة صوت. الكتابة حياة.

تشمّر عن ساعديك. تترك الشاشة، وتبحث عن بعض القهوة. أمامنا يومٌ نعيشه. لننوي أن يكون يوماً طيباً.

تورتة مدورة شمعة منوَّرة

مؤخراً أفكر كثيراً بما بتّ أسمّيه متلازمة ” تورتة مدورة شمعة منورة”.

تقدّم أعمالك مثلما تريد أن تقدّم أعمالك. بنفس المستوى الخلّاق الذي يروق لك، وليس بما تستدعيه هذه الأعمال من عادية/ تقليدية.

في الماضي كنت أنتظر المشاريع التي تسمح لي بأن أجرب أشياء جديدة، بينما أعمل على الأشغال اليومية. وكان السؤال الذي ألتفت إليه من حينٍ لآخر هو: كيف أحصل على المزيد من المشاريع من هذا النوع. التي تطرح أسئلةً لا معتادة، وغالباً عصيّة على الصياغة.

المستوى الجديد الذي وصلت له، مؤخراً وبالصدفة البحتة، هو أنني أتولى المشاريع التقليدية، و” أدسّ” فيها الشيء الجديد الذي يتحدى تقليديتها، ويجعلها مساحة من الفرح الخلّاق بالنسبة لي. في كل الأحوال استقبال العميل لها سيكون معقولاً. لو التفت العميل إلى الجديد وتلقاه بقبول حسن، شيء ممتاز. وإن لم ينتبه، يظل المشروع، بأصوله وهيكلته، قد حاز القبول. وأضفت إلى تراكمية أعمالي تجربةً جديدة مبهجة. على الأقل بالنسبة لي.

اسم المتلازمة، وتقريباً ثلاثة أرباع فكرتها، أتى من أغنية اكتشفتها قبل شهور لسيّد مكاوي رحمه الله. اسم الأغنية ” تورتة مدورة”، وكلماتها ولحنها فيها مساحات سعيدة وخلّاقة تتجاوز حدود اللزمن وحتى السياق.

” تورتة مدورة، شمعة منورة، ويا ترى جرا ايه؟ ايه يا ترى؟”

ما جرى هو أن الإذاعة المصرية تحتفل بعيد ميلادها الخمسين. الأغنية ظهرت في 1984، وبعد 35 سنة أسمعها لأول مرة فتبث فيّ سعادة لا علاقة لها بالسياق الذي كُتبت فيه. أو ربما لها كل العلاقة.

ايش أكثر عادية من أن الإذاعة الحكومية تطلب من شاعر أن يكتب لها كلمات بمناسبة عيدها؟ مهمة تقليدية ” تقتل الإبداع”. ويقوم بها الشاعر- افتراضاً- عشان يغطي طلبات البيت لهذا الشهر.

الشاعر، نادر أبو الفتوح هو – إن كنت مثلي تسمع باسمه لأول مرة- صاحب إنتاج ضخم أثرى طفولة المصريين في الثمانينات والتسعينيات، لم يستجب لعادية المهمة، ولا لرسميتها. كتب كلمات يستطيع المتذوق العادي أن يسمع فوراً التركيبة المختلفة فيها حتى على الأغاني الغرامية التي قد نتوقع أن تأتي منها التركيبات المختلفة. وبالتالي سيّد مكاوي، رحمهم الله جميعاً، أيضاً استقبل الجمال غير العادي في الكلمات، ولحنها وغناها بطريقة غير عادية.

الأغنية هنا: https://soundcloud.com/omayma-mahran/4ntdptt84acq

الإذاعة مبسوطة. المهمة أُدّيت بنجاح. ولكن في نفس الوقت، ظهرت تحفة فنية لم يزدها العمر إلا صباً وأناقة.

ماذا لو كنا نسأل الأسئلة الخطأ. ماذا لو لم يكن يفترض بنا أن ننتظر، أو حتى أن نسعى لما هو “مختلف”. ماذا لو كان الأطيب أن نعيد ابتكار، تأطير، القصص التي تعوّدنا على سماعها؟ أن تكون هذه مساهمتنا؟

تبدو الأمور، عندما ننظر إليها بهذا الشكل، أكثر منطقية. أكثر طيبة. أكثر لذاذة.