الأربعاء 18 ديسمبر 2019:
أكتب هذه الكلمات وأنا في السيارة، أنتظر اخضرار الإشارة على كوبري المربع لأصل إلى مقر اجتماع اليوم. دقائق معدودة، لأجرّب أن أكتب ما أفكر فيه خلالها.
مشروع بدأته قبل أسابيع. واتفقت عليه رسمياً في 12 نوفمبر كما تقول أوراقي. وكان سبب توتر يتجاوز بكثير ما يثيره هذا النوع من المشاريع. منذ أيام أرتب لعرض ما لزيارة اليوم، وارتحت واستعديت باستراتيجية معقولة. في السيارة خطر لي، بدون سابق إنذار، أن علي أن أقلب الطاولة. أخرج على النص. أن يكون الهجوم- ما أريده فعلاً- هو خير وسيلة للدفاع.
ليست لدي خطة متكاملة. لدي موقف وفكرة. ومستعدة أن أتحمل عواقبهما. يبدوان أكثر جاذبية، وحبوراً، من الخطة العاقلة الآمنة.
وصلت. تمنّوا لي التوفيق.
قبل سنوات قرأت مقالة في مجلة ” سايكولوجي توداي” تتحدث عن تحكّمك في قصص حياتك. أن كل ما يحدث لك هو قصة تستطيع أن تتدخل في صناعة تفاصيلها ونهايتها؛ كيف تتذكرها وماتقوله عنك.
تخيّل ألا تصبح الطرف المتلقّي. تخيّل أنك دائماً يكون لديك كلمة فصل بشأن ما يحدث لك. أن تتحكم لي ذكرياتك وأن تصنع ماضيك.
وبقيت معي الفكرة. أزورها من وقت للثاني، وأحاول تطبيقها في حياتي رغم شعوري بأني لست متمكّنةً منها بشكلٍ كافٍ. وهذا شعور متكرر في حياتي خصوصاً في السنوات الأخيرة. تأتي معرفة ما أنا في أشدّ الحاجة إليها. أحتفي بها عقلاً وروحاً، وأظن أنني أستطيع التقاطها وتطبيقها بمجرد أن تقف على بابي- أو أقف على بابها بالأحرى- ولكني أجد أنها ساكنةٌ في قصرٍ مرصود وبيني وبينها عشرات الأسوار. والصبر المُصرّ المثابر هو مفتاح كل هذه البوابات. فأظل أطرق الباب، وأطرق الباب، وأطرق الباب.. ويكاد يصيبني اليأس المتعب، ولكني أثابر.. بشكلٍ ما أثابر، فأجدها بعد شهور، أو حتى سنوات، تهادت إلي على مهل، وغمرت حياتي بأنوارها.
فكرة هذه السنة، بلا جدال، هي أنك المتحكم بقصص حياتك. ووصلتني بعد خمس سنوات أو أقل قليلاً بعد قراءتي لمقالة المجلة. وأستطيع أن ألخصها- ولتغفروا لي رتابة هذا الوصف- بـ : الفرق بين الواقع والوقائع.
كثير من أمور الحياة، تحتمل أكثر من ” واقع”، بينما نتعامل مع فكرتنا عن هذا الوقت، مع القصة التي اخترناها لتفسّر لنا أمراً ما، على أنها الواقع الوحيد.
الوقائع: الأحداث التي تقع. زيارة قريبك لك اليوم هي أمر حدث.
الواقع: تفسيرك لهذه الزيارة. معناها، والنوايا خلفها. وما تتعامل على أنه حقيقة، هو قصّتك التي صنعتها لهذه الحقيقة. وليس بالضرورة:
1- أن تكون صادقة.
2- أن تظل على حالها.
3- أن تكون هي الفكرة الوحيدة/ التفسير الوحيد/ الذي يقبله عقلك.
فإن كانت القصة يمكن تغييرها لتنفعك. لترفع عنك أذىً يمكن أن يصيبك، لتدفعك لمكانٍ أفضل يمكن أن ترتحل إليه، أليس من المعقول، والأفضل، أن تتولى بنفسك تغيير القصص؟ ترتيب حقائقها، إعادة صياغة معانيها، لتكون قصة متسقة مع الطيبة التي ترغب تعيش بها حياتك؟
لكن ماذا عن الوقائع التي لا تملك سبيلاً لتغيير معانيها؟ ماذا عن الظلم؟ عن اختلال موازين القوى؟ عن قلة الحيلة أو عن الخذلان؟ كيف يمكن أن تتعايش مع نتيجة قاسية صارمة لا يمكن تغييرها؟
الغالب أننا أحوج ما نكون إلى تغيير القصص عندما لا يكون هناك مفرّ من النتيجة القاسية. القصة لا تهدف إلى تغيير النتيجة، فتغييرها ليس بأيدينا. بل لتغيير استقبالنا لها. وعندما نغيّر تلقّينا للنتيجة، نحن نغيّرها.
هناك مثال مفاجئ في وضوحه ضربه الشيخ حمزة يوسف مرة. قال بأنك إن فقدت يدك اليمنى، دع شعور الامتنان يغمرك لأنك لازلت محتفظاً باليد اليسرى. وإن فقدت كلتا يديك، افرح بقدميك. وهكذا.
هذا تلقٍ مختلف. وبالتالي تختلف النتيجة.
الأربعاء 18 ديسمبر 2019:
عدت إلى منزلي، لم أكتب ما حصل معي أثناء عودتي في السيارة. ابتعت مفن مفضّل هذه الأيام من حلواني على الطريق، واستمعت لقائمة الألبوم الرابع لمحمود العسيلي. فكرت أن آخذ لفة على البحر احتفالاً بالانتصار الداخلي، ولكن بدا لي أنني في حاجة إلى دفء المنزل أكثر.
أخذت موافقة مفتوحة على أمر لم أكن أتوقع مجرد إمكانيته. ولكن الغنيمة الأسمى والأطيب ليست فيما حصلت عليه. الفضل هنا يعود لأصحاب الفضل.. بل في القصة ذاتها التي تغيرت، وسمحت لبعضٍ من أشعة الشمس أن تتخلل هذه الأسابيع الكابية.